عمار علي حسن
تعلمت كثيراً من الناس، وأؤمن أنهم الأساس، لذا يروق لي تأمل أحوالهم، ورؤية نفسي بينهم، وتحديد مكاني في زحامهم. زحام الكادحين الذين يجاهدون بلا كلل ولا ملل، ويحفرون في الصخر، كي يبقوا على قيد الحياة. لهذا آثرت العيش بين هؤلاء، رافضاً كل العروض التي تتابعت أمامي.. كي أسكن بعيداً عن قلب «القاهرة».
وكلما تعجب أصدقائي من إصراري على البقاء في شوارع.. تضيق بالأقدام اللاهثة، أتلو عليهم الحكمة.. التي سمعتها ذات يوم من الخبير الاجتماعي الراحل الأستاذ «علي فهمي»، وأدركت معانيها ومراميها مع الأيام، حين قال: «عشة في وسط البلد، أفضل من قصر على أطراف المدينة».
وإذا زرت دولة ما، فإن أول ما يشغلني هو قلب المدن.. النقطة التي نبتت أولا، ثم قام حولها كل العمران، فهي مفتاحي لقراءة أي مدينة. كيف كانت؟ وكيف صارت؟ وإذا حجزت لي جهة تستضيفني في ندوة أو مؤتمر، يكون أول ما أسأل عنه هو مكان الفندق، فإن كان على طرف المدينة، سألت عما إذا كان من الممكن أن يكون في قلبها، فإن كان هذا متاحاً.. لا أتردد في الانحياز للاختيار الثاني.
ذات مرة قال لي الموظف الذي أخبرني بالحجز:
المؤسسة متعاقدة مع فندق فخم قريب من المطار.
ابتسمت وقلت له: هذا معناه أنني لم آت من القاهرة.
ثم سألته: هل تتعاقد المؤسسة مع فندق آخر في قلب المدينة؟
أجابني وهو يضحك: نعم، لكنه نجمتان فقط، بينما الآخر خمس نجوم.
قلت له: كثرة النجوم تغيظني، أريد النجمتين، وهذا سيوفر لكم بعض المال.
حين سألني عن سبب اختياري هذا، أجيبه بلا تردد: أريد أن أكون بين الناس.
طالما أردد بلا توقف: «الشعب هو صاحب المال والسيادة والإرادة والشرعية»، ويزداد إيماني بهذا.. كلما قلبت صفحات الحوليات التاريخية، لأرى كيف تمضي الحياة في بلادنا.. على أكتاف بسطاء، أنا مدين لهم بأشياء كثيرة في حياتي.
مدين لتجاربهم العديدة العميقة.. التي تصلح كل منها رواية لي، إن عرفت صاحبها أكثر. أو دراسة حالة في علم الاجتماع.. إن أدركت الظروف التي أحاطت بها بشكل أعمق، أو رأيتها ضمن اشتباكها مع تصرفات الآخرين، ومساراتهم ومصائرهم.
لا أنسى أنني حين تركت مصر 4 سنوات، لم أرزق فيها سوى بقصة قصيرة واحدة.. عن مجتمع الغربة، وكل ما كتبته كان حنيناً جارفاً إلى مسقط رأسي. في تلك السنوات/ كان يتهادى لي حلم متكرر في نومي؛ حيث أرى نفسي أرتفع عن الأرض، وأطير في الهواء، أرفرف بذراعيّ وساقيّ وأعلو فوق شواشي النخيل، وتحت السحاب، لأرى بيوت قريتي الخفيضة.. تتساند على بعضها البعض.. بين الزرع والجسور، وتحت سماء حانية. بيوت – رغم ضيق الحال – عازمة على أن تبقى في المكان.. على مر الزمان.
حين أستيقظ، أستعيد الحلم متلذذاً به طويلاً، وأقول لنفسي: إنه توق إلى الحرية، إلى البراح في رحاب قريتي، إلى أيام البراءة التي ولَّت.
وحين عدت من غربتي، قلت لصديق، لم تطله حرفة الأدب – ونحن نجلس على المقهى – انظر حولك، لتدرك كيف ألتقط قصصي؟ وكيف تلهمني وجوه البسطاء العابرين؟ كان المقهى في منطقة «أبو الريش». جلس عليه ذات أيام بعيدة الشاعر «بيرم التونسي» طويلاً، وكتب. – بعرق الناس – على إحدى طاولاته المتداعية، كثيراً من قصائده الجميلة. في المكان نفسه جلست بعد ظهر يوم جمعة، ورميت بصري.. فإذا بسيدة تحايل صغيرها الذي يتمرد على المضي معها في طريقها، تقف وتهدهده، وتحدثه بصوت يصل إلى سمعي، فيستجيب لها، ثم لا يلبث أن يسحب يده من يدها، ويتوقف راغباً في العودة إلى الخلف، أو يجلس على الأرض متشبثاً بمكانه.. لا يريد أن يبرحه.
قلت لصاحبي ضاحكاً: هذه قصة قصيرة. ولم تمض سوى دقائق، حتى ظهر عجوز يحط على كتفيه عمودي عربة كارو، محملة ببضائع يوزعها على الأكشاك. كان يقف برهة، في وقدة الشمس الحارقة، يمسح عرقه بطرف جلبابه، ويعيد اتزان العمودين على كتفه، ثم يسحب على مهل، دون أن يئن. راقبته حتى اختفى تحت «الكوبري».. الواصل بين حي «المنيرة» وحي «زين العابدين»، وقلت لصاحبي: حياة هذا الرجل إن أتيح لي معرفتها ستكون، دون شك، رواية واقعية بديعة.
أتذكر أنني فور عودتي، هرعت إلى «عربة فول» تقف في ساحة ضيقة.. بين البنايات التي تقع خلف ميدان «االتحرير» – بين شارعي «التحرير» و«محمد محمود» – ودفعت جسدي بين المتزاحمين.. يأكلون في نهم.
لم يكن بالنسبة لي طعاماً فقط، رغم أنني ظللت أشتهيه سنتين ونصف السنة.. غبت فيها عن مصر قبل أول عودة، بل كان أيضاً طقساً إنسانياً في بلادي. إن تأملته، أمدني بالكثير في دنيا السرد والشعر والاجتماع.
(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى).
نقلاً عن «المصري اليوم»