Times of Egypt

نصابون وقراصنة.. الصراع على قناة السويس

M.Adam
عبدالله السناوي 

عبد الله السناوي
على مدى التاريخ المصري الحديث – بكل حروبه وأزماته – اكتسبت قناة السويس أهميتها المحورية.. في تقرير مصير البلد. نحن بصدد أزمة جديدة، تلوح مقدمتها في طلب دونالد ترامب.. إعفاء السفن الأمريكية العسكرية والتجارية من رسوم عبور القناة. إنه عصر القرصنة على الموارد المصرية.
بالوثائق المصرية والفرنسية، قاد فرديناند ديليسبس أخطر عملية نصب في التاريخ الحديث، حيث امتلكت مصر (44٪) من رأسمال الشركة.. دون أن يكون لها أية سيطرة على أمورها، فضلاً عن التضحيات الهائلة التي دفعها فلاحوها أثناء حفر القناة تحت السخرة.
مات نحو مئة ألف مصري في عمليات الحفر، وهو رقم مهول بالنظر إلى عدد السكان في ذلك الوقت، نحو أربعة ملايين نسمة. لا بناها أمريكيون، ولا كان لهم أي دور في إنشائها.. كما يزعم ترامب.
كان تأميم قناة السويس عام (1956) زلزالاً مدوياً في أرجاء العالم، بقدر أهميتها في التجارة الدولية واستراتيجيات القوى الكبرى. وصف رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو حرب السويس بأنها.. محاولة لإلغاء التاريخ. هذا ما يحاوله الآن ترامب.
بنظرة أولى: يبدو طلب المرور المجاني عبر قناتي بنما والسويس نوعاً من العودة إلى الإرث الاستعماري القديم، واستخفافاً بالقانون الدولي والسيادة المصرية، وأي معنى أو قيمة حاربت من أجلها مصر.
إذا ما صحَّت المساجلة بشأن قناة بنما، فإنها كذب صريح على التاريخ بشأن قناة السويس.
لم تكن الولايات المتحدة كدولة حديثة قد أنشئت.. عند افتتاح قناة السويس (1869)! بلا تريث كلف وزير خارجيته ماركو روبيو بالتعامل فوراً مع هذا الوضع، كأنه أمر شبه إلهي واجب التنفيذ.
إذا غاب الرفض القاطع، فإن ترامب سوف يمضي قُدماً لفرض الهيمنة الأمريكية الكاملة على قناة السويس، يقرر من يمر ومن لا يمر وفق حساباته ومصالحه، دون أدنى اعتبار لنصوص وأحكام اتفاقية القسطنطينية عام (1888)، التي تنص على حرية الملاحة في قناة السويس، وتعترف بسيادة مصر عليها.
كانت تلك سيادة شكلية.. حتى استعادت مصر قناة السويس بقرار التأميم، كما بفواتير الدم التي بِذلت في حرب (1956). إننا أمام محاولة للعودة مجدداً إلى السيادة الشكلية. إنه إلغاء آخر للتاريخ.
بنظرة ثانية: يتصل طلب «ترامب» بحربه التجارية المفتوحة.. على حلفائه وخصومه معاً، قبل أن يضطر إلى تأجيلها لمدة 90 يوماً؛ تحت ضغط الأضرار الفادحة، التي نالت من الاقتصاد الأمريكي نفسه.
عشية احتفاله بمرور مائة يوم.. على عودته إلى البيت الأبيض أضاف إعفاء السفن الأمريكية من رسوم العبور في قناة السويس إلى قائمة إنجازاته المتخيلة. «إنها أفضل أول مائة يوم لأي رئيس في التاريخ».
تشبه هذه الخطوة.. سلسلة الأوامر التنفيذية، التي أصدرها في اليوم الأول له بالبيت الأبيض، وبينها الاستيلاء على قناة بنما، وضم كندا وجزيرة «جرينلاند» الدنماركية إلى الولايات المتحدة. تدخل دعوته لـ«تطهير غزة» من سكانها الفلسطينيين في نفس سياق القرصنة.. حتى يتسنى له الاستثمار العقاري.
لم ينجح بإدارة الملفات الاقتصادية والاستراتيجية الضاغطة، لكنه لا يتوقف عن طرق الأبواب الأسهل كقناة بنما. صرَح أمام الكونجرس بأنه قد استعادها عبر استحواذ «كونسورتيوم» أمريكي على ميناءين في محيطها. شيء من ذلك قد يحاوله هنا.
رغم تراجِع شعبيته وارتباك سياساته فإنه ينسب لنفسه قدرات خارقة، كل شيء يقدم عليه مذهل وجميل ورائع، وقادة العالم يأتون إلى واشنطن ليروا رئيسكم ويعقدون معه الصفقات.
لا يتورع عن كيل السباب، بمناسبة أو بغير مناسبة، لخصومه الديمقراطيين، خاصة الرئيس السابق «جو النعسان» ونائبته «كاملا هاريس»، التي خاضت الانتخابات الرئاسية أمامه.
«لن نركع لمتنمِّر.. وأمريكا نمر من ورق». كان ذلك توصيفاً مضاداً.. استعاد فيه الصينيون تعبيراً شهيراً للزعيم الراحل ماو تسي تونج.
في ذروة التصعيد المتبادل، يسعى ترامب إلى عقد صفقة على قدر من الجدية والتوازن مع الصين. إنها حقائق القوة الاقتصادية في عالمنا المعاصر.
بنظرة ثالثة: استراتيجية هذه المرة، قد يحاول ترامب توظيف دعوته بشأن قناة السويس.. لمقتضى المصالح الإسرائيلية في الإقليم المضطرب والمأزوم بفداحة.
لا يُستبعد بأي حال – إذا ما صمتنا على تجاوز القانون الدولي، واعتبارات المصالح المصرية – أن يتخذ دعوته ركيزة لفرض نوع من الوصاية السياسية والعسكرية على البحر الأحمر.
قضيته الأولى – في جولته الخليجية المرتقبة – ضخ تريليونات الدولارات.. في شرايين الاقتصاد الأمريكي، لكنه قد يعرج إلى تصورات استراتيجية.. تعمل على دمج إسرائيل بالمنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وإنهاء القضية الفلسطينية بالوقت نفسه.
… باسم تأمين الملاحة الدولية في البحر الأحمر والمشاركة بتكاليف الحرب على الحوثيين، واستعادة قناة السويس عافيتها، التي تضررت مالياً وتجارياً قد يبرر طلب الإعفاء من رسوم المرور.
الحقيقة أنه لا يحارب بالنيابة عن مصر، ولا من أجل حرية الملاحة في البحر الأحمر، حتى يطالب بفواتير الحماية. إنه يحارب بالنيابة عن إسرائيل لإسكات ما تبقى من مصادر نيران مزعجة.
عندما تتوقف النيران المشتعلة في غزة وحروب التجويع، تتوقف من تلقاء نفسها أية هجمات صاروخية عليها. هذه معادلة واضحة وبسيطة، لكنه لا يلتزم بمقتضياتها.
يُصعِّد الغارات الجوية المكثفة، دون إحراز نتائج ملموسة.
يفكر في تدخّل بري، لكنه غير مستعد لتكاليفه البشرية الباهظة.
يراهن على حلحلة ما في المفاوضات الأمريكية الإيرانية لتأمين إسرائيل، دون أن يكون لديه أدنى تصور.. لما قد يحدث في اليوم التالي.
بأي حسابات وسيناريوهات تظل قناة السويس في عين الاستهداف.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة