Times of Egypt

نحو منظومة فكرية بديلة للعالم 

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص 

عقب الحرب العالمية الثانية، خرجت مجموعة من الباحثين المعتبرين، الذين اهتموا بتطور النظام الاقتصادي/السياسي العالمي.. في ضوء محصلة الجدل/التفاعل بين الاقتصاد والأفكار. من هؤلاء علماء أجلاء؛ منهم من رحل مؤخرا عن دنيانا – وإن كانت إبداعاتهم باقية – مثل «إيمانويل والرشتاين»، و«سمير أمين»، وهناك من لم يزل يثري العقل الإنساني بإبداعاته.. مثل «مايكل مان» صاحب الموسوعة الفذة: «مصادر السلطة الاجتماعية» عبر التاريخ الإنساني، التي وللأسف لم يُترجَم أي جزء منها إلى العربية، والفيلسوف والمؤرخ وعالم الاجتماع البريطاني «بيري أندرسون» (87عاماً) صاحب الأعمال المرجعية المتنوعة مثل: «من العصور القديمة إلى عصر الإقطاع»، و«أصول الدول الاستبدادية»، «أصول ما بعد الحداثة»، و«العالم القديم الجديد»، و«قسوة معمل التاريخ»… 

يواصل «أندرسون» إبداعاته بنشره الشهر الماضي دراسة بالغة الأهمية في دورية «اليسار الجديد» العريقة المعنونة: الأفكار/القوى؛ هو إعادة الاعتبار للدراسات التي تتناول الأثر المتبادل- الجدلي بين عالم الأفكار وبين عالم الاقتصاد والمال. وقد بدأنا في مقال الأسبوع الماضي المعنون: «الأفكار الصادمة وحدها تهز العالم»؛ استعراض مسيرة العلاقة الجدلية بين الأفكار وبين الاقتصاد وأثرهما على مسار النظام العالمي. ففي قسمه الأول يخلص «أندرسون» إلى أن العالم.. منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولايزال، يخضع لهيمنة الأيديولوجية الأحادية single dominant ideology؛ وهي المنظومة الفكرية لليبرالية الجديدة – التي تعبر عن الجوهر الاقتصادي لليبرالية التاريخية – أو «العقيدة الاقتصادية» المنحازة للقلة الثرية، وتعمل لصالحهم على حساب الأكثرية. وقد تبنتها دول وحكومات الشمال العالمي-الأطلسي، وروجت لها عبر العولمة.  

بيد أن الإخفاق التاريخي للنيو ليبرالية في الوفاء بوعودها، أطلق موجات نقدية بالغة الأهمية لجوهر العملية الاقتصادية.. التي تعبر عنها من جهة، ومنظومة الأفكار التي ارتكزت عليها من جهة أخرى. خاصة وأن العالم قد عانى – منذ مطلع التسعينيات – أزمة اقتصادية/مالية «مستدامة». 

ونستكمل اليوم أطروحة «بيري أندرسون»، التي يركز فيها على ضرورة بناء منظومة أفكار بديلة للعالم. فبداية، يقدم لنا «أندرسون» تقويما تاريخيا لمسار «النيوليبرالية»؛ حيث يحاول الإجابة عن سؤال: لماذا هيمنت النيوليبرالية – كنظام اقتصادي – على العالم.. لمدة تقارب النصف قرن، ومن ثم سادت منظومتها الفكرية؟  

يجيب «أندرسون» بقوله: «جلبت نهاية الحرب الباردة تكويناً جديداً تماماً. إذ لأول مرة في التاريخ، أعلنت الرأسمالية نفسها كأيديولوجيا.. تعلن وصول نقطة النهاية في التطور الاجتماعي، عبر بناء نظام مثالي.. قائم على الأسواق الحرة، لا يمكن تصور أي تحسين جوهري يتجاوزه». 

ويؤصل «أندرسون» لهذه اللحظة الفارقة، وكيف وصل إليها العالم بأن: الإعلان عن انتصار الرأسمالية في تجليها النيوليبرالي، جاء نتاجا للصراع الداخلي.. الذي انطلق منذ ثلاثينيات القرن الماضي؛ بين من حاولوا إنقاذ الرأسمالية من أزمتها الكبرى الأولى في القرن العشرين، ويأتي في مقدمتهم «كينز» وأصحاب سياسات الرفاه الاجتماعي، وبين أقلية صغيرة من المفكرين الشديدي المحافظة.. الذين أدانوا التوجه «الكينزي/الرفاهي» الاجتماعي، باعتباره – في النهاية – قاتلاً للديناميكية الاقتصادية والحرية السياسية. 

إلا أن الدراسات التاريخية، تشير إلى أنه – في مرحلة من المراحل – وجد الأثرياء.. ومن خلفهم اقتصاديون – شديدو المحافظة – مثل «ميلتون فريدمان، و«فريدريش فون هايك».. أنه ينبغي حصار الحركات العمالية.. التي كانت تزداد قوة وتنظيما، كذلك تخفيض التطلعات الرفاهية المتزايدة (خاصة من الطبقات الوسطى). ومع تفجر أزمة الركود التضخمي في أوائل السبعينيات، وانزلاق الاقتصاد الرأسمالي العالمي.. إلى التراجع الطويل الذي استمر لعقود، وجدت هذه العقيدة الصارمة والمتشددة – الليبرالية الجديدة – فرصتها. وبحلول الثمانينات، وصل اليمين الشديد المحافظة إلى السلطة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وبدأت الحكومات – في جميع أنحاء العالم – تتبنَّى السياسات النيوليبرالية لمواجهة الأزمة؛ بخفض الضرائب المباشرة، وتحرير الأسواق المالية وسوق العمل، وإضعاف النقابات العمالية، وخصخصة الخدمات العامة، وسياسات التقشف… إلخ. وساهم تفكيك الاتحاد السوفيتي في اعتماد الليبرالية الجديدة.. كنمط اقتصادي وحيد، باعتبار أن ما عدا ذلك، ليس سوى «وهم قاتل». 

لم يمر وقت طويل، حتى تبين أن الوهم القاتل.. لم يكن إلا الليبرالية الجديدة، ووعودها الكاذبة.. التي وسعت فجوة اللامساواة، إلى حد غير مسبوق تاريخيا. كما زادت من عدد الفقراء.. حتى بلغ ما يقرب من نصف سكان الكوكب، وأعادت النظام العالمي إلى زمن التنافسات/الصراعات الإمبريالية القديمة. كذلك تأكد أيضا كيف أن منظومة الأفكار المحركة للنيوليبرالية؛ كالسوقية، والاستهلاك، واللا آدمية، وازدراء التاريخ، وانتهاك البيئة، واستباحة العنف.. وغير ذلك، أساءت كثيرا للإنسانية.  

وبالرغم من سطوة الإعلام النيوليبرالي – الذي يحاول تجميل واقع الكوكب، وتصويره على غير حقيقته – نشير إلى التقارير السنوية للمؤسسة التنموية العالمية – خاصة «أوكسفام» – التي نحرص على تقديمها سنويا، لفهم ما آل إليه العالم من أوضاع مزرية، وتدمير فائق. ويكفي فقط استعارة عنوان تقرير «أوكسفام».. الصادر قبل سنة والمعنون: «البقاء للأغنياء»؛ لدلالة العنوان، وما ورد في التقرير من معلومات واستخلاصات، فإن أندرسون يقول: «من الخطأ الاعتقاد بأن الأفكار النيوليبرالية.. أحدثت فرقاً كبيراً». 

وذلك لأن الأزمات التي أوقعت فيها مواطني العالم.. تعد كارثية، كما باتت مزمنة. ويكفي الإشارة إلى أن العالم يعيش أزمة اقتصادية تنموية مستدامة.. منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي. بدأت مع الأزمة المصرفية السويدية 1990، ثم الأزمة اليابانية من 1995إلى 2000، ثم ما يُعرف بالأزمة الآسيوية الشهيرة 1997 ـ 1998، حتى الأزمة الاقتصادية/المالية العالمية.. التي تعرَّض لها العالم سنة 2008 (التي تعد الأسوأ تاريخيا منذ أزمة سنة 1929)، ولم يتعافَ العالم منها بعد، فلا تزال تداعياتها قائمة حتى الآن؛ خاصة مع تعرض العالم للجائحة الفيروسية سنة 2020. 

وبعد، يخلص «بيري أندرسون» إلى أن «الأفكار لها وزن حاسم.. في ميزان الفعل السياسي، ونتائج التغيير التاريخي»؛ ومن ثم يمكن تطوير منظومة فكرية بديلة.. تستلهم أنقى وأعدل ما وصلت إليه الإنسانية عبر تاريخها. وفي نفس الوقت، تبتكر الأفكار التي تواجه به ما اقترفته الليبرالية الجديدة من آثام.  

وبالأخير، تتبلور هذه الأفكار وتلك – التي يطرحها ويدعو إليها أندرسون – في منظومة فكرية واحدة، حتى تمتلك «الجذرية والصلابة، والتأطير المنهجي المتماسك وغير المتهاون».. المواكب للعصر وتحولاته المطردة. لتكون منظومة فكرية بديلة، تتسم بالأصالة والتحليل النقدي العميق المتعدد الأبعاد. وهي منظومة، يقول «أندرسون» أنها «لا تساوم أو تمتثل أو تجتر». 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة