Times of Egypt

نحو ترتيبات إقليمية رادعة في الشرق الأوسط الجديد

M.Adam
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد

لم يعد الشرق الأوسط الجديد مجرَّد دعوة.. يطلقها مسؤولون أمريكيون، ولا مجرد نبوءة.. تخرج عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولكنه واقع يتشكل أمام أعيننا.. ترسمه خطوط امتداد القوات الإسرائيلية، وتدعمه سياسياً أنشطة مخابراتها؛ هكذا توسعت في الشهور الأخيرة سيطرة إسرائيل على الأراضي العربية – من غزة إلى جنوب سوريا، وخمس نقاط حدودية في جنوب لبنان – وأعلن الكنيست الإسرائيلي فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وواكب ذلك؛ بل ومهَّد له، تغيُّر علاقات القوة في الشرق الأوسط.. بالضربة التي تلقَّاها محور المقاومة المسلحة (في مواجهة إسرائيل).. في غزة وفي لبنان وفي اليمن، وبعد ذلك في إيران.

 وتتفاوت ردود الفعل العربية إزاء هذه التطورات، فهناك من يحلم بأن تؤدي المفاوضات الجارية (بجهود الوسيطين العربيين) بين حماس وإسرائيل، وبحضور ممثلين للإدارة الأمريكية، ومع تحركات دبلوماسية من خلال الأمم المتحدة، إلى الحد من التوسع الإسرائيلي، فيتم الوصول إلى نهاية للحرب في غزة.. تفتح الباب لإعادة تعميرها وإنقاذ مواطنيها من خطر التجويع والعدوان المسلح الإسرائيلي. ويعلق هذا الفريق من الحكومات العربية.. أمله أن تنجح الجهود الدبلوماسية من خلال الأمم المتحدة في سبتمبر من هذا العام، بتبنِّي قرار أُممي.. يدعو للاعتراف بدولة فلسطينية، يمكن – مع بعض الضغوط الدولية – أن يتيح تحقيق السلام في الشرق الأوسط.. على أساس حل الدولتين، وربما ترحب الإدارة الأمريكية – أو على الأقل دوائر عديدة في الولايات المتحدة – بهذا التطور على أساس أنه يمهد لتطبيع كامل في العلاقات.. بين إسرائيل وكافة الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.

المخطط الإسرائيلي بين التصريحات الدبلوماسية والعمل على الأرض

احتمال أن توقف هذه الجهود.. مخطط إسرائيل لشرق أوسط جديد تكشف عنه، فضلاً عن تصريحات إسرائيلية عديدة.. حول حدود دولة الميعاد، وأفعال إسرائيل على الأرض، ومؤتمرات تعقد فيها.. تبحث فيما يجب عمله في غزة والضفة، فضلاً عما تفصح عنه تحركات الدبلوماسية الأمريكية تجاه كل هذه القضايا. فمن حيث الأفعال على الأرض، قامت القوات الإسرائيلية بتسوية مناطق واسعة في غزة بالأرض.. وخصوصاً في مدينة رفح على الحدود مع مصر، ودمرت 70٪ من المباني فيها، وتخطط لإقامة مدينة خيام في رفح، تستوعب مئات الآلاف من سكان غزة.. تمهيداً لتهجيرهم. 

وتقول المصادر الإسرائيلية، إنها اتصلت بحكومات ليبيا وإثيوبيا وإندونيسيا.. لقبول هجرة الفلسطينيين إليها، وتأمل أن تساعدها الولايات المتحدة في ذلك. صحيح أن القيادات العسكرية في إسرائيل.. تتحفظ على هذه الخطة – بسبب عبء تأمينها – ولكننا نعرف أنه في إسرائيل، المستوى السياسي – الذي اقترح هذه الخطة، من خلال وزير الدفاع الذي جاء به نتنياهو – هو الذي له اليد العليا في هذه الأمور. 

ووفقاً لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، عقدت الأحزاب اليمينية في الحكومة الإسرائيلية مؤتمراً في الكنيست يوم الثلاثاء الماضي.. عنوانه: «ريفييرا غزة من الرؤية إلى الواقع»، ناقش تخطيطاً للقطاع يضم مدينتين منفصلتين، وحياً سياحياً بفنادق تطل على البحر، ومنطقة زراعية وأخرى صناعية. وواكب وزراء يمينيون آخرون في الحكومة هذا الحماس لمستقبل غزة، فنشرت جيلا جاملييل – وزيرة العلوم والتكنولوجيا – فيلماً قصيراً بمساعدة الذكاء الاصطناعي.. يظهر فيه من يشبه إيلون ماسك، وهو يتناول خبزاً بالحمص، وتماثيل ذهبية لدونالد ترامب، مصحوبة بأغنية غزة ترامب، ولا يظهر في هذا الفيلم أي فلسطيني. وصرح أميشاي إلياهو – الوزير اليميني الآخر المسئول عن التراث – يوم الخميس الماضي، بأن إسرائيل تسابق الزمن لتصفية غزة من سكانها، وهو نفس الوزير الذي كان قد اقترح منذ شهور عديدة.. أن تستخدم إسرائيل قنبلة نووية للخلاص من سكان غزة.

إسرائيل خطر على دول أخرى في الشرق الأوسط

لا تقتصر مخططات إسرائيل على الأراضي الفلسطينية؛ فنظرية الردع الإسرائيلية تتصور التهديد لإسرائيل من خارج الأراضي الفلسطينية، وقد يشمل كل بلاد الشرق الأوسط.. بحكم التعاطف المتصور بين أغلبية سكانه المسلمين والفلسطينيين، وهو التعاطف الذي عبرت عنه حكومات كل تلك الدول، ولذلك تسعى إسرائيل لأن تكون أقوى الدول عسكرياً في الشرق الأوسط، وتعزز ذلك.. من خلال تفوقها العلمي، وعلاقتها الوثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية، التي وإن دخلت في مرحلة هبوط نفوذها في كافة أقاليم العالم الأخرى، إلا أنها – بحكم انشغال القوتين المتنافستين لها خارج هذا الإقليم – تتصرف بالفعل.. باعتبارها القطب العالمي الأوحد فيه. 

ولذلك، يضع المخططون الاستراتيجيون الإسرائيليون في حساباتهم، الحيلولة دون أن تصبح أي دولة في الشرق الأوسط.. قادرة على منافسة احتكار بلادهم للسلاح النووي، أو الصواريخ العابرة للقارات، أو حتى السلاح التقليدي.. الذي يمكنها من الصمود في مواجهة هجوم إسرائيلي.

 الشواهد على القلق من ظهور هذه القوة المنافسة عديدة، منها تصدِّيها لبرنامج الصواريخ المصري في الستينيات، وتدميرها للمفاعل النووي العراقي في يوليو 1980، وهجومها – بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية – على إيران في حرب الاثني عشر يوماً، وحتى المملكة العربية السعودية.. اعتبرتها إسرائيل قوة إقليمية غير مأمونة، ولذلك قاومت تسلحها بطائرات الإيواكس المتقدمة.. في عهد الرئيس رونالد ريجان، وتحفظت على مساعدة الولايات المتحدة لها في تطوير برنامج نووي سلمي، فضلاً على أن أحلام القادة الإسرائيليين.. بامتداد سيطرتهم الإقليمية إلى كل أرض الميعاد، يدخل فيه أيضاً أراضي المملكة. كما تتنافس إسرائيل مع تركيا داخل سوريا، وحتى مصر – التي أبرمت معها إسرائيل معاهدة سلام – لم تنجُ من إعراب مسؤولين إسرائيليين، وأصدقائهم في الولايات المتحدة.. عن قلقهم من نمو إمكانات القوات المسلحة المصرية.

أفكار المواجهة في الوطن العربي

على الرغم من وضوح الخطر – الذي تمثله إسرائيل على أمن واستقرار كل شعوب الشرق الأوسط – إلا أننا لا نكاد نرى تصوراً لكيفية الاستجابة لهذا الخطر. 

الإحساس بضرورة وجود هذا التصور، بدأ يجد طريقه إلى بعض الاجتهادات العربية خلال الأسابيع الأخيرة. ومن حسن الحظ، أن الأصوات الداعية للتطبيع مع إسرائيل – كسبيل للسلام في إقليمنا – قد خفتت، إن لم تكن قد اختفت، بعد أن برهن التدخل الإسرائيلي في إقليم السويداء في سوريا، بل وقصف وزارة الدفاع السورية في دمشق.. على أن إسرائيل لا يهمها السلام، بقدر ما تهمها السيطرة.. من خلال إضعاف كل جيرانها، بتغذية جذور الانقسامات العرقية بينها. وعلى زيف الرهان.. بأن السلام مع إسرائيل، هو الطريق للحد من طموحاتها التوسعية.

 ولكن هذه الأفكار الأولى.. في كيفية التصدِّي للعدوانية الإسرائيلية؛ إما أنها تعول على تطور داخلي في إسرائيل، يصعد فيه معسكر السلام، ويتخلى عن السيطرة الإقليمية.. كضمان لأمن إسرائيل؛ مستعيضاً عنها بعلاقات تعاونية مع كل دول الإقليم، تقوم على الاحترام المتبادل لحقوق كل هذه الدول.. في الاستقلال ووحدة الأراضي، وهو «أمر غير محتمل.. في المدى القصير على الأقل؛ كما توحي بذلك استطلاعات الرأي في إسرائيل»، أو أنها تقصر البديل المقترح على الدول العربية. 

الدكتور حسن نافعة.. يتبنى التصور الأول، وطرح السفير القدير رمزي عز الدين.. البديل الثاني؛ مميزاً بين نظام أمني وبنية أمنية، ويقترح ترتيبات أمنية متدرجة بين الدول العربية، يمكن أن تصل فيما بعد إلى نظام أمني. ويميل كاتب هذه الورقة.. إلى فكرة الترتيبات الأمنية، التي يمكن أن تفضي قريباً.. إلى نظام أمني يشكل تحالفاً عسكرياً، ولكن تكون أعمدته الأولى دولاً أربع.. هي الأكثر استقراراً في إقليم الشرق الأوسط، وهي المعنية – أكثر من غيرها – بخطر فائض القوة الإسرائيلي على أمنها، وأمن كل دول الإقليم. كما أنها هي القوة العسكرية الأكبر فيه.

 والسبب في توسيع دائرة هذه الترتيبات الأمنية المقترحة، هو أن الدول العربية وحدها.. قد لا تمثل رادعاً عسكرياً في مواجهة إسرائيل، ولكن هذه الدول الأربع – بما تملكه معاً من قدرات علمية وعسكرية وصناعية ومالية – يمكن أن تشكل بتعاونها مثل هذا الرادع. فضلاً على أن التعاون المتدرج فيما بينها، يمكن أن يكون قاطرة تجذب لها دولاً أخرى على امتداد الإقليم، وخصوصاً في المشرق العربي ودول الخليج. 

مثل هذا الترتيب الأمني، يقوم على مبادئ أساسية.. في مقدمتها احترام حق كل الشعوب في تقرير المصير، والسيادة على أراضيها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ورفض احتلال الأراضي بالقوة، والاستعداد للتعاون مع كل الدول التي تؤمن بهذه المبادئ. 

بطبيعة الحال، هناك مخاوف وشكوك وأسباب للتوتر.. فيما بين هذه الدول، ولكن كل أسباب الخلاف – فيما بينها – لا تجعل من أي منها خطراً على الأمن الإقليمي للدول الأخرى. على أن مثل هذه الترتيبات، لا يمكن أن تنجح.. إذا ما قُدِّر لها أن تلقى بعض الاستجابة ممن بأيديهم صنع القرار، دون أن تقوم كل دول الإقليم بترتيب بيتها من الداخل، ومعالجة أسباب الانقسامات الداخلية.. التي توفر للاستخبارات الإسرائيلية فرصة النفاذ لتفكيكها؛ على نحو ما فعلت سابقاً في السودان والعراق، وعلى نحو ما تسعى لعمله الآن في سوريا.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة