Times of Egypt

نبذة عن سوريا «الحبيبة» وحديثٌ ذو شجون

M.Adam
محمد عبدالشفيع عيسى 

محمد عبدالشفيع عيسى..

تشاء الأقدار أن يكون لمنطقة «المشرق العربي» وضع خاص جداً، ونقصد هنا ما يسمى تاريخياً «الشام والعراق»، إذ يضم «الشام» كلاً من (سوريا الكبرى) أي سوريا الحالية ولبنان وفلسطين التاريخية بما فيها «الأردن» الحالية. ونستثني منطقة «شبه الجزيرة العربية» ــ بما فيها الخليج ــ من التعريف المحدد لـ«المشرق العربي»، فلها شأن آخر.
يتّسم الوضع «الخاص جداً» للمشرق العربي- وفق التحديد «الجيو ــ بوليتيكي» السابق – بخاصيتين أساسيتين:
أولاهما: افتقاد «الوحدات الإقليمية».. التي تضم أجزاءً مختلفة من إقليم الدولة بالمعنى الدقيق، نظراً للتبعثر والتشرذم الجغرافي لمنطقة «المشرق»، أو ما يسمّى بالإنجليزية Fragmentation ؛ وهو ما أطلق عليه بعض البحّاثة تعبير «البلقنة»، قياساً على التبعثر الجغرافي/ السياسي.. الذي كان يميز منطقة البلقان، وإلى حد ما شطراً من شرق أوروبا، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويعود «التشرذم» المشرقي إلى عوامل تاريخية معقدة، ليس هنا مجال سردها، سواء في مراحل الدول الإسلامية الكبرى: الأمويين والعباسيين وإلى حد الفاطميين، أو في عهد دويلات «المماليك» ثم الأتراك العثمانيين منذ سيطرة هؤلاء على المشرق ومصر في 1516-1517.
وثانيتهما:أن «المشرق العربي» يتسم تاريخياً-جغرافياً، بإحاطته بكيانات سياسية كبيرة.. موحدة لدرجة عالية، برغم التنوع «الجماعوي» أو «الإثني»، وبتوفر عوامل القوة النسبية لدرجة ممارسة السيطرة على ما حولها، إلى حد بعيد. ونقصد هنا، «بالتحديد»، كلاً من تركيا وإيران الحاليتين، وإذ كان «الروم» والفرس ــ وتوابعهما ــ يهيمنان على الفضاء الإقليمي المشرقي – هيمنة تامة أو شبه تامة – منذ بزوغ العصر الوسيط وخلال شطر غالب من العصر الحديث.. حتى بروز السيطرة الاستعمارية الغربية الحديثة فالمعاصرة.


لذلك، كان – ويكون – المشرق العربي.. محط أنظار القوى الكبرى والكبيرة.. من حوله – وبعيداً عنه كذلك – إضافة إلى تشرذمه التاريخي، والتوّزع أو التشرذم «الإثني» العميق (ونشير هنا أيضاً إلى أقوام أو قوميات أو «شبه قوميات» أبرزها «الكرد»)، وذلك بفعل ما أشرنا إليه من عوامل متعددة، ومن بينها تشابك تاريخه مع تاريخ «آسيا الوسطى وهضبة الأناضول».. من جهة أولى، و«الفضاء الفارسي» الواسع.. من جهة أخرى.
لعل التوزع أو التشرذم الاجتماعي – إضافة إلى افتقاد الوحدة الإقليمية المميزة للدول مكتملة الأركان، وخاصة «وحدة الحياة السياسية» و«الحياة الاقتصادية المشتركة» – هما اللذان جعلا المشرق «محط أطماع».. بطبيعته – إن صحّ التعبير – كما أنه «مقرّ» و«ممرّ»، كما قال البعض في وقت ما.. أواسط القرن العشرين.
وقد بُذلت محاولات للتغلب على التشرذم «المتأصل» للمشرق، بدعوات مختلفة مثل «سوريا الطبيعية» و«سوريا الكبرى»، لتضم أشتاتاً مختلفة من منطقة المشرق أو الشام. واخترع البعض (وهو هنا السياسي «أنطون سعادة») مصطلح «الأمة السورية» ومن ثم «القومية السورية»، وأوجد من أجل ذلك حزباً هو «الحزب القومي السورى»، الذي تلاشي فكره السياسي وكينونته العضوية – منضمّاً بعد ذلك – بصورة أو أخرى – إلى الإطار العربي الأوسع.
بيد أن الاستعمار البريطاني والفرنسي – خلال النصف الأول من القرن العشرين – كان لهما شأن أي شأن.. في تعميق «البلقنة» القائمة على الشّرذْمة التاريخية-الجغرافية، ثم إعطائها محتوى سياسياً.. متوغلاً في أعماق الحياة الاقتصادية والسياسية، عبر ما أطلقت الأدبيات العروبية مصطلح «التجزئة»، كما هو الحال في العراق، وسوريا و لبنان وفلسطين والأردن.


الأخطر من هذا كله، هو تعميق الشرذمة والتدخل الخارجي، كليهما، من خلال إقامة «رأس الحربة» الصهيوني.. رويداً رويداً، منذ ما يسمى «وعد بلفور»، في الثاني من نوفمبر 1917، حتى إقامة ما اعتبروها «دولة» (وهي ليست دولة.. بحق)، باسم «إسرائيل».. في عام النكبة 1948، وما سبقه بقليل وما تلاه.
غدا رأس الحربة الصهيوني – منذ ظهر كفكرة ودعوة ثم كحركة، وأخيراً (دولة!).. خنجراً مسموماً ــ إن صحت العبارة ــ في ظهر المشرق العربي، بكل أوجاعه. ثم في ظهر المنطقة العربية كلها.. شاملة شبه الجزيرة والخليج، ووداي النيل، والمغرب العربي الكبير.
لذلك ينضم «الخنجر المسموم» ــ الذي فعل ما فعله في نكبة 1948 وعدوان 1967 وما تلاهما – إلى عوامل التشرذم والتدخل الإقليمي والعالمي، ليكون «المشرق» ممراً للنفوذ الخارجي الاستعماري والصهيوني، ومقراً دائماً للمؤامرات الخارجية.. بالذات، على الكيان السياسي للجماعة العربية.


ثم تشاء الأقدار التاريخية، فتجعل من منطقة «المشرق».. ساحة لصراعات وتناقضات الأنظمة السياسية العربية، وفي الجوار الجغرافي.. خلال حقبة ما بعد الاستعمار Post-Colonialism تحت لواءات مختلفة، سياسية-حزبية أو غير حزبية، فيتعمق الشرخ القائم، وتسهّل تلك على الخنجر المسموم فعله، فتجعل من ثم عملية «بناء الوطن«Nation-building مهمة بالغة الصعوبة، إن لم يكن الأمر أكثر من ذلك حقاً.
لذلك، لاحظنا «ظاهرة الانقلابات»، والتغير السياسي السريع.. مدفوعتين بمغامرات «الخنجر المسموم»، على ساحات فلسطين التاريخية (شاملة الأردن) ولبنان، شماله وجنوبه والعاصمة بيروت.
ووجدنا ذلك مثالاً – أو أمثلة – على امتداد سبعينيات القرن وثمانينياته وتسعينياته، حتى تداعيات «طوفان الأقصى» عام 2023- 2025.
وأما سوريا «الصغيرة» – سوريا بحدودها الطبيعية والسياسية الحالية المعترف بها دولياً.. «سوريا الحبيبة» – فإنها.. وإن اعتُبِرت «قلب العروبة النابض» كما قال جمال عبد الناصر، فإنها كانت – ولم تزل – شارة (وإشارة).. تقرّب لنا المعنى البعيد، (وربما تُبعد القريب)، قلباً نابضاً أو غير نابض، للأسف التاريخي الشديد.
وما الأحداث الأخيرة، في سوريا «الصغيرة ــ الحبيبة»، سوى تأكيد جديد على المعاني السابقة، التي حاولنا أن نلمح إليها ها هنا.
فماذا يخبئ لسوريا وللعرب جميعاً، هذا الزمان..!؟ أم لعلنا نردد من وراء الشاعر الأندلسي: (ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها// كالهرّ يحكي انتفاخاً صورة الأسدِ).
ولكنه حديث ذو شجون..!
نقلاً عن«الشروق»

شارك هذه المقالة