وجيه وهبة
لكل حاكم أو زعيم.. ما له وما عليه، ولا يجب أن تكون نظرتنا إلى حكامنا – في عصر ما بعد الاستقلال، سواء أكان ملكياً أو جمهورياً – نظرة حدِّية؛ فلكلٍّ إيجابياته ولكلٍّ سلبياته.
وللجميع الحق في أن يُشيد أو يتشيَّع للحاكم الذي يفضِّله، أو يعبِّر عن رفضه واستيائه من الحاكم الذي لا يوافق هواه، بلا «تأليه» و«دروشة» هنا، أو «شيطنة» و«غِلّ» هناك. هذا هو منطق الأمور.
والشعوب قد تذكر – أو لا تذكر – «محاسن حكامها»، وتغفر – أو لا تغفر- إخفاقاتهم وخطاياهم، ولكن التاريخ أبداً لا ينسى ولا يغفر كوارثهم.. تلك التي تذهب بكل إنجازاتهم، مهما عظمت.
و«جمال عبد الناصر» ليس استثناءً من كل ذلك.
يُعد أرشيف «جمال عبد الناصر» بمكتبة الإسكندرية.. مادة تاريخية شديدة الأهمية، لمن يريد أن يستفيد ويتعلم من دروس الماضي. ومن هذا المنطلق – وليس بغرض التشفِّي أو الشماتة، وبمناسبة ما أثارته إذاعة مقاطع صوتية من مباحثات جرت بين «ناصر» و«القذافي» في أغسطس عام 1970 – نعود مرة أخرى لمحاضر تلك المباحثات المهمة، لقراءة بعض من سطورها – وما بين سطورها – ففيها من العبر الكثير.
ما جاء بهذه المباحثات – (يومَي 3 و4 أغسطس) – يبين عن اختلافات وخلافات عربية/عربية، أكثر مما يبين عن «تضامن عربي»؛ فبعيداً عن الشعارات الرنانة، وعلى أرض الواقع، كان هناك تنافر وتباغض بين عدد من حكام الدول العربية «التقدمية»، وقادة المنظمات الفلسطينية، وبين «ناصر» – خاصة بعد قبوله «مبادرة روجرز» – كان لا يثق بهم، وكانوا يتآمرون عليه.
لولا «الرجعية» كنا سلِّمنا
إن من مد يد المساعدة المادية لناصر فعلياً – بعد كارثة 1967 مباشرة – كان من يسميهم «الرجعية العربية».. من ملوك وأمراء الخليج. يقول «ناصر» للقذافي: «شوف لو ما كنتش خدت الدعم في أغسطس 67، اللي هو تعويض عن جزء مما فقدناه، كنا في ديسمبر سلِّمنا.. سلِّمنا!»… «؛ لأن ما كانش هيكون عندنا قمح وكذا»،….. «إحنا الحقيقة – بكل أسف – أخدنا الدعم من الدول الرجعية، مش أخدنا الدعم من الدول التقدمية، ولم يكن أمامي في هذا.. إلا أن أسكت، وأنا لما كانوا بيجوا يكلموني الكلام ده، كنت بقول لهم: إحنا دولة صغرى، فيه دول كبرى عربية.. اللي هي بتدي الدعم! هذه حقائق الأمور كلها».
ويقول «ناصر» عن الجزائر «التقدمية»: «بو مدين الراجل مش عايز يدفع مليم.. مليم! يعني يشوف دفاتر الميزانية بتاعتنا، وكنا بندفع له أد إيه كل سنة، بس ما دفعلناش مليم! وعايزيني أطلب منه؟! والله لو جُعنا ما أطلب منه».. «قلنا له: إدينا بترول في اتفاقية الدفع.. ما قلنا لهوش إدينا مجاناً، قال: لأ، بالعملة الحرة!…، وبعدين قلنا له: ما عندناش عملة حرة إدينا.. باتفاقية الدفع، لينا قرض عندهم 10 مليون جنيه كنا مديينهم لهم، قلنا لهم: ادفعوه في الوقت الحالي قالوا: لأ فيه اتفاقية بينا وبينكم، بندفع كل سنة كذا! بعت 3 مرات بس لغاية ما ادوهولنا على قسطين 3، بدل 10 أقساط».
وفي موضع آخر يقول «ناصر»:
«بالنسبة للجزائر، برضه الحقيقة… إحنا لا نثق في بوتفليقة (وزير الخارجية)»… «وفيه خطة كبيرة بين تونس والعراق والجزائر والمغرب، وهم أساؤوا إلينا كثيراً جداً.. رغم ما عملناه معاهم أيام ثورتهم، ولكن هذا شيء وهذا شيء آخر!».
- «النتيجة إن إحنا الوحيدين اللي بنحارب النهارده.. والباقيين كلهم بيتكلموا. الحقيقة، إحنا الوحيدين اللي بنخسر، إحنا الوحيدين اللي بندفع.. إلى متى الحقيقة شعبنا بيحتمل هذا؟! وبعدين الفلسطينيين عايزين يحكمونا، ويمشونا زي ما هم عايزين! بيقولوا: تصفية القضية الفلسطينية؛ أنا مستعد أحل أنا قضية سينا، وأسيب القضية الفلسطينية للفلسطينيين، زي ما بومدين بيقول».
وعن دولة «العراق» التقدمية – التي تناوئه وتهاجمه – ويحرِّض رئيسها «حسن البكر» حكام العرب والجماهير عليه، يقول «ناصر» للقذافي: «مين بيحكم؟ صدام اللي بيحكم العراق.. نمرة واحد صدام التكريتي، نمرة 2 السامرائي، نمرة 3 الحديثي.. اللي كان هنا ومشي النهارده. ناس ما تعرفهمش! ما هو عماش والبغل التاني ده اللي كان عندكم (يقصد حردان التكريتي، وزير الدفاع العراقي).. دول أراجوزات، يعني بيلبسوهم بدل وكاكي وبتاع، ويقعد ده يتكلم كده وده يتكلم كده، لكن دول على الهامش، دول مش هم اللي بيحكموا!». (كان «ناصر» محقاً، فبعد فترة انقلب «صدام» على «البكر» وتولى الحكم رسمياً).
- «الفلسطينيين بيقولوا: ما حدش يتكلم باسمهم، لا زعيم عربي ولا أي دولة عربية، وإنهم لا يقبلوا الوصايا وكذا.. طيب إنتو لا تقبلوا وصايا؟ آه.. إحنا عمرنا ما قلنا وصايا…. ده الموقف. طب ماذا يعمل ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية؟ هل فيه كفاح مسلح فعال في الداخل؟ ما فيش كفاح مسلح، إحنا بننشر بياناتهم اللي بنعرف إن 90 ٪ منها كذب.. بيانات الكفاح المسلح؛ عشان إحنا بنعتبر إن المقاومة ظاهرة صحية، ووجودها بيفيدنا الحقيقة.. حتى سياسياً بيفيدنا».
- من توابع إذاعة مقاطع من مباحثات «ناصر» و«القذافي»، أنه كانت هناك ردود أفعال هيستيرية، تُبين بما لا يدع مجالاً للشك.. أن هناك ما يمكن وصفه بأنه «مرض سياسي مزمن» اسمه «العصاب الناصري» الحاد، لا يُسأل عنه «ناصر».. نسخة 1970.
نقلاً عن «المصري اليوم»