عمر إسماعيل*
لا تزال ذكرى جمال عبد الناصر.. محفورة في الوعي العربي و المصري؛ باعتبارها مرحلة تحول صاخبة، مفعمة بالأمل والخيبة، النصر والانكسار. لكنها – في كل الأحوال – لا تحتمل التبسيط، ولا يليق بها.. التعامل غير الجاد، الذي يفتقد للحد الأدنى من الالتزام بالحقائق التاريخية. والحد الأدنى هذا، هو ما يعجز عنه كثيرون؛ نتيجة لموقف مسبق من عملية التحول الاجتماعي العميقة في مصر حينا، وأحيانا أخرى بسبب التماهي مع ما يمكن تسميته «تصور واقعي» للمشهد الذي نشأ بعد رحيل عبدالناصر، وكرسته السياسات المتهافتة التي جرى تبنيها بعد الرحيل، وما ترتب عليها من نتائج كارثية.. تهرب المسؤولون عنها من فشلهم، بتعليقه على «شماعة» عبدالناصر.
في هذا السياق، جاء المقال المنشور في «المصري اليوم” بتاريخ 11 مايو 2025 – الذي أعاد موقع “تايمز أوف إيجيبت” نشره في اليوم التالي – بقلم الأستاذ وجيه وهبة تحت عنوان »ناصر 70».. «حلّوا عنّا»؛ الذي بدا أقرب إلى محاكمة هزلية – للزعيم الراحل جمال عبد الناصر – منه إلى تحليل جاد لمفصل مصيري.. في التاريخ المصري والعربي الحديث.
عندما تُستخدم الوثائق لتزوير الوعي
بلغ الأمر ذروة المفارقة.. في استخدام الكاتب تسجيلًا صوتيًا مجتزاً لاتصال هاتفي بين عبد الناصر والعقيد معمر القذافي، زاعمًا أن ما ورد فيه يكشف عن «وجه عبد الناصر الحقيقي». وهذه مغالطة لا تسقط المهنية فقط، بل تفضح خللًا جوهريًا في الفهم السياسي والتاريخي معًا.
التسجيل الذي يُروَّج له كـ«فضيحة».. ليس سوى حديث و نقاش خاص.. بين زعيمين، عشيّة انعقاد قمة عربية، بعد واحدة من أعمق الهزائم.. التي عرفتها الأمة العربية. هل كان يُفترض من عبد الناصر أن يتحدث، كما كان يتحدث في خطاب جماهيري؟ هل المطلوب من زعيم دولة تتعرض لحصار وعزلة وضغوط داخلية وخارجية وخيانة ومزايدة عربية، أن يُجامل التاريخ.. حتى في لحظاته الخاصة؟
استخدام هذا التسجيل.. كدليل على «ضعف» ناصر، لا يثبت شيئًا إلا ضعف قدرة في التناول. فليس من يقتطع تسجيلًا مجتزأً.. من هذا النوع، ويصيغ عليه مقالًا، يمتلك القدرة علي التحليل السياسي الرصين، ولا من يفترض أن «الصراحة في لحظة خصوصية».. هي تنازل، يكون جديرًا بتقييم رجل.. كانت مسؤولياته بحجم قارة.
بعيدًا عن التسجيل، يعكس المقال كله.. روحًا استعلائية على التاريخ، ومحاولةً ساذجة لخلط ما هو تكتيكي.. بما هو استراتيجي، وما هو لحظي بما هو بنيوي. الأسوأ من ذلك، أن الكاتب يتجاهل عمدًا – أو جهلًا – السياقات التي تحركت فيها مصر بقيادة عبد الناصر بعد نكسة 1967.
فمن غير المقبول، لا مهنيًا ولا أخلاقيًا، أن يُختزل قرار قبول مبادرة روجرز.. في كونه «انبطاحًا”، بينما أغفل المقال أن هذه المبادرة أعطت لمصر فترة وقف إطلاق نار.. كانت في أمسّ الحاجة إليها لإعادة بناء جيشها الذي خاض حرب استنزاف استثنائية من 1967 إلى 1970؛ بإعادة تموضع قوات الدفاع الجوي على خط المواجهة، مهّد عمليًا لانتصار أكتوبر 1973. هل نسي الكاتب أن الإسرائيليين أنفسهم.. وصفوا حرب الاستنزاف، بأنها.. «نزيف لا يُحتمل»، وأن موشيه ديان قال وقتها: «لو استمرت حرب الاستنزاف، لانهار الجيش الإسرائيلي؟»
إن الطعن في قرار عبد الناصر.. بقبول المبادرة، هو – في جوهره – طعن في حرب أكتوبر نفسها، لأن إنجاز أكتوبر اعتمد على ما بناه عبد الناصر طوال سنوات ثلاث بعد النكسة. فهل كان السادات يستطيع العبور.. لولا أن عبد الناصر بنى حائط الصواريخ، وأعاد هيكلة القيادة، وأشرف على إعداد جيش.. يملك القدرات لا الشعارات؟
التاريخ لا يُقرأ بمزاج الكاتب
ليس أسوأ من أن يُجزَّأ التاريخ، إلا تقديمه كصورة كاريكاتيرية. المقال محل الرد، اختزل عبد الناصر في «زعيم قد انتهى» يعيش هزيمته. وهو توصيف لا يُقال حتى عن زعيم مخلوع، فكيف يُقال عن رجل.. رفض شعبه التنحي، وخرج بالملايين يؤكد تمسكه بقائده، فعاد إلى الحكم.. لا لينام، بل ليبدأ أخطر مهمة في تاريخه: إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من وطن مهزوم.
التحليل النزيه لا يبدأ من تسجيل صوتي، ولا من مقطع عابر، بل من قراءة شاملة للمشروع.. بنقاط ضعفه وقوته، إنجازاته وإخفاقاته. والكاتب، بدلًا من أن يُمارس دوره في تسليط الضوء على الجوانب غير المعروفة من المرحلة، مارس ما يشبه التحريض الناعم: تحميل ناصر مسؤولية ما فشلت فيه جميع القيادات العربية في ذلك الحين، من دون أن يطرح.. ولو حتي بديلًا واحدًا، أو يقدم سيناريو مختلفًا، كان يمكن أن يُنقذ مصر أو العرب.
مسؤولية الكلمة في لحظة تاريخية
أن يكتب كاتب في صحيفة وطنية.. عن لحظة مفصلية في تاريخ بلاده، فهذه مسؤولية تتجاوز وجهة النظر الشخصية، وتدخل في باب المسؤولية المهنية والوطنية. المقال ليس منشورًا في مدونة شخصية، أو تغريدة عابرة، بل في صحيفة تقرأها شرائح من الرأي العام، تأخذ الكلمة المكتوبة على محمل الجد.
ولهذا، فإن المطلوب من أي كاتب يتناول ناصر، أو السادات، أو أي لحظة سيادية في تاريخ مصر، أن يتعامل مع الأمر بمنهج جاد، لا بهشاشة تحليل.. يتكئ على تسجيلات صوتية أو سردية، اجتُزِأت لتُصوِّر توهما لنَدمٍ تاريخي .
من لا يحترم لحظة نكسة بحجم 1967، ولا يدرك أن ناصر واجه ما لم يواجهه قائد قبله أو بعده، لا يمكنه أن يكون شاهدًا نزيهًا على التاريخ، ولا محللًا جديرًا بثقة القرّاء.
ختاما: هل نُقيّم ناصر؟
نعم. ولكن كيف؟
إن الدفاع عن عبد الناصر، لا يعني تبرئته من كل خطأ، ولكن الفرق الجوهري بين النقد والتشويه، هو الأمانة. ومن المؤسف أن المقال موضع الرد.. أخطأ في الأمانة، قبل أن يخطئ في التحليل.
ومن لا يستطيع أن يُفرّق بين التكتيك والانهزام، بين الصراحة والريب، بين نقد الزعيم وعداوة المشروع، فالأجدر به أن يراجع نفسه، قبل أن يعرض آراء تنتمي إلى الخيال لا إلى العقل.
جمال عبد الناصر مات، و ترك دولة صلبة، وجبهة داخلية صلدة، وجيشًا أعيد بناؤه، ومشروعًا قوميًّا – نختلف معه، أو نتفق – لكنه كان مشروعًا له عنوان، ورجل له وزن. تجربة جديرة بالتأمل، لا بالتشويه أو التحريف. تجربة ينبغي فهمها بعين الإنصاف، لا ليّها تحت سطوة هوى كاتب. تجربة تستوجب الإنصات العاقل، لا الانحناء أمام أهواء مغرضة .
قال محمد حسنين هيكل ذات يوم:
«الرجل الذي مات، ولم يترك حسابًا في بنك أوروبي، ولا مزرعة في المنفى، ولا منصبًا في منظمة دولية، يستحق أن نحفظ له المقام، لا أن نختزله في مقطع صوتي، ونتهمه بضعف.. كان في المزايدين».
فلنراجع تراث عبد الناصر كما نشاء، ولكن بأمانة، لا بخصومة سياسية متنكرة في ثياب التحليل. وأنا لا أشك ان للحديث بقية .
- قيادي سياسي في حزب العمال البريطاني.