«حين يصبح الاغتصاب سلاحا»
عادل سليمان
السودان بلد كبير شاسع.. مترامي الأطراف؛ أشبه بقارة في تنوع أقاليمه وسكانه ومناخه، وحظوظه من الفقر والغني. استوعب كل التناقضات؛ ففي صحاريه الواسعة – بين الولايات المختلفة – يوفر الخلاء شعورا بالسلام والهدوء والقناعة والرضى.. لمن أراد أن يرى في الندرة اكتفاءً. ومن لم ير في الصحراء.. الا الجدب والفقر والرمال، ضاقت عليه نفسه، وحمل السلاح.. طمعا في ما يملكه غيره من خيرات عزت عليه.
قوات الدعم السريع – كما شرح لنا النقيب أحمد، المشرف على مركز ” عثمان مكاري” لتوثيق الانتهاكات في الخرطوم – جاءت من هذه الصحراء في دارفور، بعد أن تمرست على الكر والفر والقتال.. ضد قبائل المزارعين في شمال الولاية، وبعد أن مكن لهم الرئيس السابق البشير في العاصمة الخرطوم، وصنع منهم جيشا خاصا – حين راودته الشكوك في جيشه – وتحصن بهم.. خوفا من الانقلاب عليه.
وبعد قيام الثورة وخلع البشير، صارت قوات الدعم السريع شريكا للجيش في حكم البلاد، وازدادوا عددا وعتادا في زمن قياسي.
وعندما استشعر الجيش السوداني الخطر من هذه القوات – التي تشكل جيشا كبيرا، ولا تنتمي للجيش – وحاول استمالتها، ووقع معها «الاتفاق الإطاري».. بإشراف دولي وإقليمي وأفريقي في ديسمبر عام 2022، كان من أهم بنوده.. دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني. ولكن الاتفاق فشل.. بسبب الخلاف على زمن الدمج، فبينما أراد الجيش السوداني دمجا سريعا خلال سنتين، وبقيادة الجيش، أراد الدعم السريع دمجا بطيئا على مدي عشر سنوات أو أكثر، مع الاحتفاظ بقيادته ونفوذه.
هذا الخلاف لم يكن تقنيا.. بل صراعا على من يسيطر على الجيش، ومن يحكم السودان. وكان سببا مباشرا للحرب بين الفريقين.
ومن المفارقات، أنه عهد لقوات الدعم السريع.. بحماية الخرطوم؛ فكانت تتمركز في مفاصل الدولة الحيوية ومنشآتها الهامة، وعندما اندلعت أولى الاشتباكات في المدينة الرياضية.. جنوب الخرطوم – بعد تحرك مفاجيء لقوات الدعم السريع في فجر الخامس عشر من أبريل عام 2023، في هذه المنطقة الاستراتيجية عسكريا – كان الدعم السريع يسيطر بالفعل على تسعين في المائة من الخرطوم.
وفي دقائق معدودة، تمددت الاشتباكات إلى محيط القيادة العامة، ومطار الخرطوم والقصر الجمهوري، وتحولت العاصمة – خلال ساعات – إلى ساحة حرب شاملة. وحاولت قوات الدعم السريع.. قتل قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وهي المحاولة التي قتل فيها جميع أفراد حراسته الخاصة، أكثر من خمسة وثلاثين عسكريا، ونجا منها البرهان.. كما روى لنا المسؤول عن مركز توثيق الانتهاكات في الخرطوم.

الكاتب مع الوزيرة سليمى إسحاق
عندما التقينا بالسيدة سليمى إسحاق – وزيرة الدولة للتنمية الاجتماعية وشؤون المرأة والطفل – قالت لنا إن تطورا مهما حدث في هذه الحرب.. بعد أيام من سيطرة الدعم السريع على العاصمة؛ وهو استخدام العنف الجنسي ضد المرأة في الخرطوم، واقتحام بيوت المواطنين، وتعدد حالات الاغتصاب. لم تكن حوادث منفردة – كما أكدت لنا الوزيرة – بل حدثت على نطاق واسع، واستخدم الاغتصاب كسلاح للترويع والاخضاع وتهديد العائلات واذلالها. وأضافت، أنها – بحكم تخصصها في دراسة حالات التروما والصدمات النفسية – تدرك حجم الضرر الذي يتركه العنف الجنسي على ضحاياه.. على المدى البعيد، وعلى صحة المرأة وعلى الأسر والعائلات، وما يحدثه من فُرقة في المجتمعات. وليس لدى الوزارة إحصاء دقيق لعدد النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب.. بسبب إحجام معظمهم عن الابلاغ، وتجنب الوصمة الاجتماعية التي تلحق بهم وبعائلاتهم. ولكن الحالات التي تطلب مساعدة من خدمة رعاية شؤون الأسرة في الوزارة، تأتي إما للتخلص من الجنين بشكل قانوني، أو لأنها تخطت الفترة القانونية المسموح فيها بالإجهاض وهي 120 يوما، وعندما لاتريد الأم ولا أسرتها تربية هذا الطفل، تلجأ إلى مراكز شؤون الأسرة، وقالت إن هناك 90 أمراة طلبت المساعدة في التخلص من أطفال الاغتصاب.. من بين ألآف الحالات الفعلية.. التي لاتدري ماذا حل بها، وبعضهم توفي أثناء الولادة. وعندما سألتها عما إذا كانت خدمات رعاية المرأة.. تقدم في الولايات التي تقع تحت سيطرة الجيش، قالت إن هناك بروتوكولا خاصا بالتعامل مع حالات الاغتصاب في جميع العيادات.. في الولايات الثلاث عشرة التى يسيطر عليها الجيش، وأصبحت هذه الخدمات جزءا من برنامج الرعاية الأساسي في كل العيادات. ولكن المشكلة تكمن في أن معظم المستشفيات المخصصة للولادة ورعاية المرأة، استولت عليها قوات الدعم السريع.. بما فيها من دواء وعلاج، لذلك عمل الأطباء على تقديم بروتوكولٍ بديلٍ يمنع الحمل والأمراض الجنسية المعدية، ولكنه لايمنع الاصابة بالأيدز أو بالتهاب الكبد الوبائي. كما أن النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب الجماعي.. بشكل متكرر، يتعرضن غالبا للإصابة بسرطان مميت.
وسألتها عما إذا كان هناك توثيق لحالات الاغتصاب، وعن مصير الأطفال الذين يولدون.. بعد حالات الاغتصاب. فقالت إن كثيرا من هذه الحالات لا توثق، وإن مرتكبي الاغتصاب يصحبون ضحاياهم إلى المستشفى، لمنع الأطباء من كتابة أي تقرير يوثق للحالة. أما الأطفال، فيقوم الأهالي بتبنيهم.. بروحهم الطيبة، وبرغبة في التكافل.
وأضافت الوزيرة.. إن عام 2023 كان من أسوأ الأعوام للمرأة السودانية، وقد اتخذت العديد من السودانيات احتياطات.. بتجمع عدد منهن في بيت واحد، مع تخزين مايحتاجونه من المؤن والطعام؛ بحيث لا يضطررن للخروج من المنزل، رغم أن بقائهن في المنازل لن يحميهن من القصف والرصاص، ولكن تضامنهن يحميهن من الاغتصاب. وقالت إن جنود الدعم السريع.. غالبا ما يدخلون المنزل، ويتهمون الأسر بإخفاء فلول النظام السابق، ويستخدمون هذه التهمة.. ذريعة لاقتحام البيوت، واغتصاب بناتها في غرف داخلية.. تحت تهديد السلاح، أمام صراخ باقي أفراد العائلة، وبعد أن ينتهوا، يهددون العائلة.. بأنها إذا قامت بالإبلاغ عنهم، سيعودون اليها من جدبد.
لذلك – كما تقول الوزيرة – فإنها تعرف أن كثيرا من الأسر التي تركت السودان، لا تريد العودة، ليس لأنها لاتريد الرجوع إلى السودان، ولكن لأن بيوتها شهدت ذكريات سيئة ومؤلمة، ولم تعد كما كانت المكان الآمن، الذي عاشت فيه، ويحمل لأفراد الأسرة كل ذكرياتهم الطيبة.
وللحديث بقية…