Times of Egypt

ناس السودان وثمن الحرب

M.Adam
عادل سليمان

عادل سليمان

(في الطريق إلى الخرطوم)

انتهينا من برنامج الزيارات واللقاءات في بورسودان – المدينة الأكثر أمنا نسبيا – فلم يكن فيها إلا تمركز محدود لقوات الدعم السريع، وتم طردهم خارجها.. عندما تصدت لها القوات البحرية – التي تعمل في ميناء المدينة، بمساندة  من الأهالي – وكذلك بعد توقف هجمات الطائرات المسيًرة.. على المرافق الحيوية، عندما تمكن الجيش من نصب مصدات دفاعية.. على بعد أميال خارج المدينة. 

أخبرنا المشرفون على الرحلة.. أن المحطة التالية ستكون في الخرطوم – عاصمة البلاد التي شهدت بداية اندلاع الحرب وأشد معاركها ضراوة – وأن التحرك باتجاه الخرطوم.. سيبدأ في الثالثة فجرا، وعلينا أن نكون جاهزين بحقائبنا في قاعة استقبال الفندق.. في الموعد المحدد. 

المسافة بين بورسودان والخرطوم حوالي 800 كيلو متر، وتستغرق حوالي 13 ساعة.. على امتداد ساحل البحر الأحمر في معظمها. قبل الحرب كان يتم السفر بين المدينتين بالطائرة.. في أقل من ساعة، ولكن بعد تعرض مطار الخرطوم إلى الضرب بالمسيرات، أصبح  خارج الخدمة، إضافة إلى ظروف الحرب.. التي تجعل السفر بالسيارة أكثر أمنا.

عندما سمعت أن زمن الرحلة سيستغرق كل هذه الساعات، كان أول سؤال لمرافقينا.. عما إذا كان هناك فترات  استراحة على الطريق، وطمأنونا بأن هناك فترتين للاستراحة، الأولي ستكون في مدينة «هيا» في ولاية البحر الأحمر – وهي نقطة عبور أساسية بين المدينتين، كما أنها مركز تجاري.. يخدم المناطق المحيطة، والقبائل البدوية في شرق السودان – أما الاستراحة الثانية فستكون في مدينة «عطبرة».. التي تقع في ولاية نهر النيل شمال السودان، وتعرف بـ «مدينة الحديد والنار».. لأنها كانت مركزا مهما للسكك الحديدية، كما أنها لعبت دورا بارزا في الحركة العمالية والسياسية بالسودان. وكذلك اندلعت منها شرارة  الثورة الأخيرة في عام 2018.

حضرت حقيبتي، وشربت فنجان قهوة، وفضلت الكتابة عما شاهدناه.. على نوم قصير قد لاينفع.

وفي الموعد المحدد، جاء مرافقونا بثلات عربات حديثة ..من ذات الدفع الرباعي. فتوزعنا على العربات، وانطلقنا – بعد استخراج تصاريح المرور اللازمة على الطريق – وقد استغرق ذلك حوالي ساعة من الزمن. 

في كل رحلات العمل السابقة – في المدن المختلفة – كنت حريصا على أن اتخذ من سائق السيارة دليلا للبلد ومرشدا؛ فبحكم طبيعة عملهم.. يعرفون الكثير عما يجري في البلاد، ولديهم الكثير من القصص، والحكايات الكاشفة عما يحدث في المناطق المختلفة.  

ولأن السودان في حالة حرب.. تصبح المعلومات عن الأوضاع العامة أكثر قيمة وأهمية. وكنت محظوظا في هذا الرحلة، لأن سائق سيارتنا.. بدر الدين، لم يكن سائقا عاديا؛ فقد عمل لأكثر من 17 عشر عاما في إحدى السفارات المهمة، وتلقى تدريبا متقدما، ودورات متخصصة.. شملت  قيادة السيارات المصفحة، والتعامل مع الظروف والمواقف الخطرة. ليس هذا فحسب، فقد كان مطلعا على تفاصيل الحرب، وطبيعة البلاد، ومناطقها المختلفة.. فأصبح مرجعا ورفيقا مهما، في رحلة شاقة ومجهدة. 

… بعد قليل من تجاوز  حدود مدينة بورسودان، لاحظت كثافة من  نوع واحد.. من شجيرات  متوسطة الطول، ذات أوراق صحراوية مدببة، تنتشر على امتداد الطريق الساحلي بين البحر الأحمر والصحراء. ولما سألته عن نوع هذا الشجر، قال إن اسمه شجر «المسكيت» الشوكيّ – الذي  أدخل  إلى السودان في أوائل  القرن التاسع – ويتميز  بجذوره العميقة.. القادرة على سحب المياه من اعماق التربة، وكان الهدف منه تثبيت الكثبان الرملية، ومكافحة التصحر في المناطق القاحلة، كما يوفر أعلافا وظلا.. في بيئة شديدة الجفاف. ورغم فوائده، فقد تحول إلى مشكلة ضارة؛ لأنه سريع الانتشار في زمن قياسي. وفي كثير من الحالات، يغزو المسكيت الأراضي الزراعية والمراعي وأحواض المياه، حتى يحل محل النباتات الأصلية. 

image 9

أشجار «المسكيت» الشوكيّ

… قلت في نفسي: إن رمزية هذه الشجرة، تدل على الكثير من أوجه الصراع الحالي في السودان وأسبابه، فما تحسبه سيعود بالنفع على السودان، قد يكون مكمن  الضرر؛ فمثلا بدلا أن يكون الذهب – المنتشر في أراضي السودان – خيرا على البلد وأهله، أصبح من أحد أسباب الصراع. وعندما استعانت الحكومة  بقوات الدعم السريع لدعمها.. انقلبت عليها. وبدلا من أن تصبح التعددية العرقية والثقافية في البلاد مصدرا للتكامل، صارت سببا للفرقة  والتمايز والخلافات، وهكذا الوضع في السودان.

بعد أكثر من ثلات ساعات، وصلنا إلى مدينة «هيا».. محطة استراحتنا الأولى، وكانت المدينة تتعرض لرياح شديدة متربة.. تكاد تحجب الرؤية، فأبطأت السيارات من حركتها لنتوقف، ولكننا فوجئنا بالسيارة الأولى – التي تقود  باقي السيارت – تنطلق مسرعة على الطريق، ولم تتوقف كما كان متفقا عليه، وكان يتوجب علينا أن نتبعها.. حسب تعليمات خط السير، وأن نلتزم بعدم ترك مسافة كبيرة بين السيارات الثلاث.. خلال هذه الرحلة الطويلة، وهم سائقنا بدر الدين أن يسرع ورائها، ولكني قلت له لابد أن نتوقف، فجميعنا بحاجة للنزول من السيارة، ولو لخمس دقائق لاستخدام الحمامات.. فهناك ضرورات أمنية، كما أن هناك ضرورات طبيعية لا تؤجل! 

وتفهم السائق وضعنا وتوقف. 

وبينما كنت على بعد خطوات من الحمام، هالني منظر الصحراء الجرداء.. الممتدة على مرمى البصر إلى حدود الأفق البعيد، وشعرت بحضور طاغ لهذه الصحراء الشاسعة القاسية، وأدركت معنى كلمة «الجدب» وندرة اللون الاخضر، وما يعنيه للرعاة والمزارعين.. في الصراع بين القبائل على الكلأ والمرعى للحيوان والإنسان على السواء.

image 6

مشهد «الجدب» في الصحراء حتى الأفق

كانت الحمامات بدائية للغاية، مجرد حفر في الأرض.. محاطة بالطوب اللبن، وأبواب حديدية صدئة، تعود  إلى زمن غابر. 

«هيا» مركز صغير.. يقع مابين البحر والصحراء، تري فيه مجموعات صغيرة من السكان المحليين والرعاة.. يمشون هنا وهناك ، وبعض الباعة يلاحقونك ببضاعة هامشية لا تحتاجها، ومن بينهم أمراة عجوز طاعنة في السن، تقدمت نحوي.. وهي تضع  يدها على فمها؛ في إشارة بليغة بحاجتها إلى الطعام، ولم يكن معي أي شيء أقدمه لها.. سوى بعض من ثمار  الموز، التي كانت معنا في السيارة، لنستعين بها على مشقة الطريق، أعطيتها بعضا منه، وعدت إلى السيارة وانا أقول لنفسي.. لا يوجد في هذه الصحراء إلا الرمال والصخور وأشجار «المسكيت»، وقطعان جمال هنا وهناك على امتداد  الطريق ترعى على أعشاب ونباتات برية نمت في رمال الصحراء.

وسالت سائقنا ودليلي.. بدر الدين، كيف يعيش هؤلاء الناس في هذه الصحراء القاسية؟ شرح لي أن ولايات البحر الأحمر مشبعة من ملوحة البحر الشديدة، ولذا فهي غير صالحة للزراعة، ولايوجد أي مصدر للمياه العذبة سوى الآبار، وأن غالبية  من يعيشون في هذه المنطقة، ينتمون إلى من قبائل «البجا» – وهي من أقدم الجماعات البشرية في شرق السودان والقرن الأفريقي، ولهم تاريخ يمتد لآلاف السنين، ويشتهرون بالإبل الصحراوية – «الجمل البشاري» – وقد لعبوا دورا مهما في تجارة البحر الأحمر، والهجرات، والعلاقات  مع الحجاز واليمن، وهي من أقدم القبائل الأفريقية ، ويشارك قبائل البجا السكن في في هذه المنطقة.. قبيلة الراشيدة، وهي من احدث  القبايل العربية.. التي بدات طلائعها بالهجرة إلى السودان بداية من عام 1869، وهم يتنقلون مع ابلهم حيث توجد المراعي. 

ونعود إلى فقراء قبائل «البجا» – حيث توقفنا في «هيا» – وغذائهم الأساسي يعتمد على أكلات «العصيدة»، التي تصنع من الدقيق والماء  والملح، ثم تؤكل مع اللبن. 

ومع ندرة  الخضروات و الفواكة من الارض، تقوم بعض المنظمات الإنسانية بتوزيع وجبات تحتوي على بروتينات نباتية بشكل دوري لحمايتهم من سوء التغذية.

image 8
image 7

صورتان من أحد مراكز توزيع المعونات في «هيا»

اما قبيلة الراشيدة  فتعتمد  في غذائها بشكل اساسي على «الكَبسة» السعودية المكًونة من  لحم الغنم والأرز. 

تركنا «هيا».. وواصلنا الرحلة باتجاه سوق «مسمار»؛ حيث تباع وتشترى معدات التنقيب عن الذهب للأهالي. ومن المدهش حقا أن بإمكان أي شخص من الأهالي.. أن  ينقب عن الذهب – الموجود في قلب الحجارة والصخور – في مناطق معينة على جانبي الطريق، طالما كان لايحمل معدات ثقيلة ومتطورة، من تلك التي  يصرح  باستخدامها للشركات فقط. وقد رأيت  خلال رحلتنا على الطريق، كثيرا من أعمال الحفر المحدودة، وأكوام من الصخور المفتتة، وبعض الأهالي وهم يحملون جوالات مملؤة بالحجارة المحتوية على حبيبات من ذهب، تمهيدا لطحنها  في مطاحن الحجارة، ثم معالجتها بمواد كيميائية معينة، ثم غربلتها وتصفيتها.. للحصول على بضع جرامات من الذهب. 

… سألت نور الدين عن الوقت اللازم – الذي يستغرقه الحفر – للحصول على حجارة ممزوجة بالذهب، قال إنها عملية تحتاج إلى صبر ومعدات جيدة، وقد تستغرق عملية التنقيب عدة اسابيع، فعليك أن تقيم في خيام في الصحراء.. على جانب الطريق أو في عمق الصحراء، عندها يصبح الحصول على  الذهب مؤكدا، ولكن لن تحصل على كميات كبيرة، بل على عدة جرامات.. وأنت وحظك! 

أما الشركات الكبيرة – بمعداتها الضخمة المتطورة، ووسائل المسح والرصد – فغالبا ما تحصل على كيلوجرامات من الذهب. 

السودان مليء بالمفارقات ، فكما كانت الندرة سببا للصراع – كما حدث في دارفور – بين قبائل العرب الرحل وبين القبايل الأفريقية على المرعى  للإبل والأغنام، حتى تطور إلى صراع مسلح في عام 2005. فإن الوفرة، في هذه الارض الغنية بالذهب وبالمعادن، كانت ايضا سببا  للصراع والمطامع  محليا واقليميا. 

 غادرنا سوق مسمار – حيث معدات البحث عن الذهب – واقتربنا من مدينة «عطبرة».. حيث يباع الذهب المستخرج من الحجارة ومن باطن الأرض. وعطبرة هي أكبر مدينة على الطريق بين بورسودان والخرطوم، سوق كبير للسلع والبضائع، بالإضافة إلى بيع وشراء الذهب، كما أنها مركز للتجارة. وبعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، استخدمت المدينة كمركز لتهريب الفارين من الحرب إلى مصر، عن طريق أسوان على الحدود الشمالية للسودان، ويستخدم المهربون طرقا خفية  في قلب الصحراء، يقطعونها بسيارات «pick up» رباعية الدفع، تستوعب الواحدة منها قرابة عشرة أشخاص، والتسعيرة حوالي مائة دولار للفرد الواحد.  

قضينا في السفر – حتى تلك النقطة – حوالي ثماني ساعات، في طريق ضيق.. يتسع بالكاد لسيارتين، لذلك فإن السرعة محدودة، والتجاوز على الطريق شديد الخطورة، ناهيك عن عربات النقل الثقيلة.. التي تنهب الأسفلت من الاتجاهين. 

وعندما دخلنا عطبرة، كان التعب والجوع والإرهاق قد أخذ منا مأخذا، فدخلنا أحد مطاعمها.. بفرحة من وصل إلى باريس لأول مرة!   

أخيرا.. سنجلس على مقاعد، ونأكل ونشرب الشاي والقهوة، ونستعمل حمامات.. لابأس بها!  

وللحديث بقية… 

شارك هذه المقالة