عادل سليمان
اقتربنا من العاصمة الخرطوم.. التي شهدت اندلاع الشرارة الأولى لهذه الحرب، وأشدّ معاركها ضراوة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وصلنا أولا إلى مدينة «شندي».. التي تبعد حوالي ساعة ونص بالسيارة عن العاصمة المثلثة. أول ما يلفت النظر.. هو المساحات الخضراء الشاسعة على مرمي البصر، بخلاف الرمال والصحراء والجدب.. الذي شاهدناه طوال الطريق.مدينة شندي.. تقع في محيط ولاية نهر النيل، حيث فاض عليها النيل بخيراته، ومنحها حياة غنية بالزراعة وكل ماتنتجه الارض من ثمار وخضروات وفاكهة. وعندما رأيت بعض الصبية على الطريق.. وهم يحملون أكياسا مملؤة بالبرتقال والجوافة، طلبت من سائقنا نور الدين أن نتوقف لنشتري بعضا منها، لم يتمكن أي من زملاء الرحلة من الحصول على جنيهات سودانية؛ فالبنوك توقفت عن العمل، وكذلك محلات الصرافة.. في زمن الحرب، لكن مرافقنا وفر علينا التفكير في النقود، ونزل من سيارته وأشتري لنا ما يكفي من البرتقال والجوافة. ملأت رائحة الجوافة العطرة النفاذة أجواء السيارة التي نستقلها – حتى قبل أن نخرجها من أكياسها البلاستيكية – هذه الرائحة عادت بي إلى الماضي وذكرتني برائحة الجوافة الزكية في الإسماعيلية.. قبل هجرتنا لها مع حرب 1967، عندما كنا نلتقط حباتها.. ونحن أطفال، بعد أن تساقطت على الأرض من أشجار الجيران. كانت رائحتها تجذبنا إليها.. قبل أن نراها.
كان ذلك في زمن بعيد.. عندما كانت الارض تعطي خيراتها بشكل طبيعي، قبل أن تتلوث طينتها وثمارها.. بأطماع الربح السريع .ولكن هنا في مدينة شندي – وغيرها من مدن الوادي، التي تقع على جانبي النيل – ما زال الناس يعيشون في هذا الزمان البعيد الطيب، فليس مسموحا للمزارعين باستخدام أي مواد كيميائية في زراعتهم.. بهدف تسريع نمو وإنضاج الثمار، حتى المبيدات الحشرية.. لا تستخدم إلا للضرورة، وبشكل محدود جدا.. لمقاومة الآفات، وهو ما جعل الأرض تحافظ على خصوبتها وبراءتها.2 / 4ولكن البراءة غابت في توزيع خيرات هذه الثروات الطبيعية.. مابين ولايات الشمال الغنية، وولايات الجنوب الفقيرة. وكان ذلك سببا مباشرا في صراعات الماضي والحاضر، وفي الحروب الأهلية.. التي أدت إلى انفصال جنوب السودان عن شماله، فأصبح دولة مستقلة في عام 2011..
بعد صراع طويل، رفع فيه الجنوبيون السلاح أمام حكومات الخرطوم المتعاقبة.. متهمين إياها بالتهميش السياسي والاقتصادي؛ سواء في السلطة أو في توزيع الموارد.تركنا «شندي».. واقتربنا من مشارف الخرطوم، عاصمة البلاد، وهي – لمن لايعرفها – تتكون من ثلاث مدن كبيرة؛ الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان. وبينها جزيرة «توتي»، لذلك تسمى بـ «العاصمة المثلثة». والمدن الثلاث تقع على نهر النيل، ويربط بينها عدة كباري.. تمتد بعرض النهر.وحتى قبل أن ندخل الخرطوم، كانت أثار الحرب والدمار بادية على جانبي الطريق.. سيارات عديدة محترقة، وأليات عسكرية معطلة ومحطمة، وطلقات النار – خلال الاشتباكات – رسمت لوحات دمار وخراب مؤلمة.. على جدران البيوت، على امتداد الطريق إلى الخرطوم.
بدت الشوارع خالية في مدينة مهجورة.. إلا من بعض أناس هنا وهناك، يتحركون كأشباح في ظلام الليل.. في مدينة – كانت قبل الحرب – عامرة بكل شيء. لم يتبق من سكانها – الذين كانت تتراوح أعدادهم مابين تسعة إلى اثني عشر مليون نسمة – إلا بضعة آلاف.. لم يستطيعوا مغادرتها عندما اشتعلت بالحرب، وسيطرت قوات الدعم السريع على المدينة.
ولم يكن الخروج منها آمنا، فقد استمعت إلى شهادات من سكانها.. الذين غادروها إلى مدينة بورسودان، وكيف سُرِقت سياراتهم عند نقاط التفتيش، وكذلك كل أمتعتهم، كما أُمِر الرجال والشباب بالزحف على الأرض.. إمعانا في الاهانة والإخضاع. هذا إضافة إلى من أجبروا على تسليم أموالهم، للسماح لهم بالخروج من المدينة.
عبرنا كوبري «الحلفاية» الذي يربط بين الخرطوم بحري وأم درمان، وكان يسمح فيه بالعبور باتجاه واحد فقط، حيث جرى تدمير الاتجاة المقابل، ولم يعد صالحا للعبور في الاتجاه الآخر.وصلنا إلى أم درمان ليلا، ولكنها بعكس الخرطوم.. كانت عامرة بالناس وبالحياة ، فقد تمكن الجيش – في أيام الحرب الأولى من السيطرة على معسكر «سركاب» – وهو المعسكر الرئيسي لقوات الدعم السريع في أم درمان – ونجت المدينة من الدمار إلى حد كبير.نزلنا في شقق فندقية..
كانت تستخدم كمقر لقوات الدعم السريع، وقد شهدت بعض التخريب، وكانت عمليات التجديد والإصلاح بادية.. في طلاء الجدران والأبواب والمصعد، حتى تصلح لاستقبال الضيوف من جديد..
في مطعمها بالطابق الأول، استقبلتنا الموائد بصنوف من الطعام السوداني الشهي.. من أسماك النيل المطهوة، التي يعتبرها أهل السودان أفضل من أسماك البحر الأحمر، وعبثا حاولت أن أقنعهم بعكس ذلك، وبأن أسماك البحر أفضل مذاقا من أسماك النهر! ورغم خبرتي بعالم الأسماك، باعتبار نشأتي في مدينة الاسماعلية – التي تطل على القناة وبحيرة التمساح، وتحفل بكل أنواع الأسماك البحرية المميزة – فقد فشلت فشلا ذريعا!
كان فريق الصحفيين – القادم من لندن – قد أغرم بالقهوة السودانية، وأمعن في السؤال عن طريقة صنعها، ونوع البن المستخدم فيها، وكلما ذهبنا إلى مكان.. يمكن فيه شرب القهوة، كانت مطلبهم الأول.خلال رحلتي حتى الآن سمعت الكثير من الروايات والشهادات.. عن استهداف قوات الدعم السريع الهوية الوطنية.. عن عمد – في كل المدن التي سيطرت عليها – عندما بدأت المواجهات والحرب.
وفي صباح اليوم التالي لوصولنا الى أم درمان، توجهنا إلى زيارة المتحف الوطني في الخرطوم. وكان لدي اهتمام خاص بزيارة المتحف – بحكم تخصصي الجامعي في قسم الآثار المصرية القديمة – فهناك مشترك كبير بين مصر والسودان.. في مراحل مختلفة من التاريخ الفرعوني.
تمثال الملك طهرقا في المتحف الوطنيرأينا قاعات العرض الأساسية.. خالية تماما من أي آثار، إلا من تمثال كبير للملك «طهرقا»، وهو أحد ملوك الأسرة الـ 25، وكان قائداً عسكريا بارزا.. دافع عن مصر والسودان ضد الآشوريين، اثناء فترة حكمته في القرن السابع قبل الميلاد.
وعندما سألت عن باقي التماثيل والتحف في القاعة الرئيسية، قالت لي السيدة رحاب – رئيسة اللجنة المنوط بها تقدير الخسائر في المتحف – «إن كثيرا من التماثيل والتحف الأثرية كانت معبأة في صناديق مغلقة استعدادا لعمل صيانة في أقسام المتحف»، وتصورت للحظة.. أنها بذلك قد حفظت من النهب ، لكن السيدة رحاب استدركت بقولها «إن وجود قطع الآثار في صناديق مغلقة، سهل لقوات الدعم السريع حملها معهم قبل طردهم من المدينة» ، وفي تقدير أولي قالت «إن حوالي الفي قطعة أثرية قد نهبت من المتحف» وإن «الحصر الشامل لم يتم بعد».جزء من الدمار الذي لحق بالمتحف القومي في الخرطوم أما أكثر ما ادهشني فعلا، هو ما سمعته من أحد العاملين في المتحف بأن «قوات الدعم السريع أطلقت النار على المومياوات.. في أماكن حفظها، وأصابت حوالي 25 مومياء بضرر شديد! والسبب؛ أن المومياوات تنتمي إلى فلول النظام السابق! ».
ولكن بغض النظر عن الأسباب التي قد لاتصدق، فإنه «تم العبث وإلحاق الضرر بهذه المومياوات»، ولما سألت السيدة رحاب عن طبيعة ما حدث، قالت «إنهم كانوا يبحثون في لفائف المومياوات عن أي شيء ثمين، يمكن حمله».وقد ظهرت الآن بعض الآثار المنهوبة في بعض المزادات في الغرب، ويحاول مسؤولو المتحف استراد كل ما يظهر في المزادات والأسواق.. حتى لو بشرائه ممن وقعت هذه الكنوز في حوزتهم.
وللحديث بقية….