Times of Egypt

ميونيخ للأمن 2025: نظام «استقطابي» عالمي «2-2»

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص..
«بكلمات تصاحبها دموع البكاء»، أنهى رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن.. الدبلوماسي الألماني السفير «كريستوف هويسجِن» (70 عاماً)، اللقاء السنوي لفعاليات المؤتمر.. الذي عُقد في الفترة من 14 إلى 16 فبراير الماضي. اتسمت الكلمات الباكية برسالة تحذيرية للحاضرين المعنيين من سياسيين واستراتيجيين – وللمتابعين عن بُعد – إذ خلص فيها إلى أن: «قواعد النظام الدولي الراهن في خطر».
وبالرغم من أن المؤتمر قد ناقش – بشفافية – كثيراً من القضايا والملفات التي تتعلق بالأمن القومي العالمي، فإن شعوراً بالخطر الداهم قد أحاط بالنقاشات؛ نظراً لإدراك الحاضرين أن هناك «شروخات» قد طالت بنية النظام العالمي.. الذي ساد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وذلك بتجليه: الثنائي القطبية (زمن الحرب الباردة من 1945-1989)، والأحادي القطبية (بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي فما بعد) على التوالي؛ ما يعني بكل وضوح.. أن العالم بصدد انهيار النظام العالمي القائم، لمصلحة نظام عالمي جديد.
فعلى مدى 80 سنة، منذ 1945 وإلى 2025 استطاع النظام العالمي – ما بعد الحرب العالمية الثانية – الصمود أمام الكثير من التحديات السياسية والأمنية، والصراعات الجيو-سياسية التي تعرَّض لها النظام الدولي. إلا أن حصاد التفاعلات الدولية – التي انطلقت مع منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة.. في العقدين الماضيين – قد كشفت عن أن العالم يعيش نهاية حقبة، وبداية أخرى.. على مستوى كل من: التحالفات الدولية، والسياسات الدفاعية والردعية، والأنظمة الأمنية، والشراكات الاقتصادية والاستراتيجية.
وقد تجلى هذا الكشف من خلال نقاشات الحضور من الرفيع المستوى في مؤتمر ميونيخ 2025 من جهة، ولما ورد في التقرير السنوي للمؤتمر الذي تم اصداره قبل انطلاق فعاليات المؤتمر بثلاثة أيام من جهة أخرى.

فقد كشف التقرير – ومن بعده نقاشات المؤتمر – عن أمرين؛ الأول: إلى أي مدى قد بات النظام العالمي مأزوماً بفعل التناقضات الجسيمة والمتفاقمة.. التي جدَّت على البنى المختلفة لهذا النظام. الثاني: تعقد العلاقات الاقتصادية، وما نتج عنها من شراكات متنوعة عابرة للقارات، تتسم بطبيعة تنافسية شديدة الحدة.
في هذا السياق التناقضي المأزوم.. والتنافسي الحاد، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية احتواء النظام العالمي.. في محاولة لإعادة صياغته بما يضمن استمرارية الدور الأمريكي، الذي يقوم على: «فرادة خبرة الولايات المتحدة الأمريكية، والثقة المطلقة في عالميتها».
ونظراً لأن الرؤية الأمريكية قد اتسمت «بالاحتوائية» – حسب ما ورد في كتابات بعض الاستراتيجيين الصادرة مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين – وتثبيت الوضع القائم على ما هو عليه؛ في محاولة لاستمرارية النظام الأحادي القطبية. ومن ثم قبلت بما عُرف في الأدبيات، آنذاك «بالحرب الهادئة» Cool War، وتختلف الحرب الهادئة عن الحرب الباردة في الآتي: الحرب الباردة كانت تُدار من قبَل قطبين متناقضين، والدول إما ان تكون تابعة لهذا القطب أو ذاك.
أما الحرب الهادئة فهي حرب تسمح بالشراكة الاقتصادية بين المتناقضين، ولكن لا يمنع ذلك من أن تكون هناك خصومة في مجال الاستراتيجية الجيوبوليتيكية (هناك من الاستراتيجيين من وصف هذه الصيغة بالسلام الساخن الذي حل محل الحرب الباردة).
بلغة أخرى، كانت الحرب الباردة تتم بين قوتين عالميتين متناقضتين: إحداهما يمينية-غربية والأخرى يسارية-شرقية، وكان المسرح الدولي ساحة حرب مفتوحة بين المعسكرين، بينما الحرب الهادئة فإنها تدمج و«تُشبك» من جانب، وتفكك من جانب آخر.
ووفق هذه الصيغة، التي أطلق عليها البعض معادلة: «التعاون التنافسي والصراعي التشاركي»؛ راهنت الولايات المتحدة الأمريكية على استدامة دورها العالمي، وقدرتها على تحقيق توازن القوى، وضبط الصراع والتنافس بين الدول.
تبعت أوروبا الرؤية الأمريكية – بدرجة أو أخرى – بيد أن التحالف الغربي الأطلسي لم يستطع إدراك جوهر التناقضات والأزمات والصراعات والمنافسات المستجدة في العالم، وأن محاولة إبقاء العالم في حالة يمكن أن نصفها: بحالة الحد الأدنى من الاستقرار؛ لا يمكن أن تصمد أمام الصراعات الجيوسياسية المتزايدة، والقوى القطبية القادمة بقوة.
على الخلفية السابقة، جاء «ميونيخ 2025» ليعلن بجلاء عن ثلاث حقائق كبري: الحقيقة الأولى: نهاية مرحلة تاريخية في مسيرة الأمن الأطلسي الغربي، وبداية أخرى.. تتسم بما يمكن أن نصفه «بتمايز المسارين» الأمريكي والأوروبي. والحقيقة الثانية: الصعود اللافت للعديد من القوى إلى المسرح العالمي. والحقيقة الثالثة: بزوغ أنماط من الشراكات الاقتصادية والأمنية العابرة للقارات، والمتجاوزة خلافات الماضي. والمفارقة – بناءً على ما سبق – يقر السفير «هويسجِن».. في تقديمه لتقرير مؤتمر ميونيخ للأمن بـ: «إننا اليوم، نعيش في عالم مختلف، فمن غير المنطقي الحديث عن الأمن الأوروبي بمعزل عن العالم»، وما طرأ عليه من مستجدات.
ولعل أبرز هذه المستجدات هو «التحول العالمي للقوة».. الذي جرى في العقدين الماضيين، إذ لم تعد القوة تتمركز في يد فاعل قطبي واحد، وإنما توزعت – بدرجات مختلفة – على كثير من الفاعلين حول العالم. ولكن لا ينبغي الاستعجال في أننا قد بتنا على أبواب نظام قطبي تعددي. ذلك لأننا في لحظة تاريخية تتسم بالاستقطاب polarization التعددي؛ وهي لحظة تاريخية.. قد تكون ممتدة ما بين واقعين. أو حسب ما يقول الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريش» «إن واقع النظام الدولي اليوم، أشبه بالواقع «المطهري»؛ حيث لا يمكن أن نصف طبيعة النظام القائم. إذ لم يعد بعد أحادياً.. كما لم يتحول بعد إلى متعدد الأقطاب».
إنها لحظة تاريخية، يسود فيها الاستقطاب الحاد.. كعملية تمارسها القوى والدول المختلفة – بدرجة أو أخرى – من أجل ملء الفراغات التي أوجدتها الصراعات الجيو-سياسية والأطماع الإمبريالية، بهدف تعظيم السيطرة على الموارد والثروات. وفي هكذا سياق، ستعم حالة من الفوضى العالمية، في انتظار الانتقال إلى نظام دولي مستقر ونضر وعادل، يعمل على معالجة كل ما تسبب فيه النظام الدولي بتجلييه الثنائي والأحادي من أضرار.
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة