سمير مرقص
قبل 62 عاماً – وتحديداً في عام 1963 من القرن الماضي – انطلقت فعاليات مؤتمر ميونيخ للأمن بداية.. كملتقى يضم وزارات دفاع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي. وبعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، شمل المؤتمر دولاً مثل: تلك المنضمة حديثاً للحلف، وروسيا ودول البلطيق وأوروبا الشرقية، كذلك دول من آسيا والشرق الأوسط. وُلد المنتدى في إطار الحرب الباردة بين المعسكر الغربي/الرأسمالي والمعسكر الشرقي/الاشتراكي؛ أو ما بات يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية.. بزمن النظام «الثنائي القطبية». لم يتوقف المؤتمر عن الانعقاد سنوياً – قط – خلال هذه الفترة الممتدة على مدى أكثر من سبعة عقود من الزمان.
فبالرغم من التغير النوعي – الذي طال طبيعة النظام العالمي منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم، نهاية الربع الأول من القرن الواحد والعشرين – من: النظام الثنائي القطبية إلى النظام الأحادي القطبية، ثم إلى اللحظة التاريخية الراهنة، التي تشهد مخاضاً عسيراً نحو تعددية قطبية؛ إلا أن منتدى ميونيخ للأمن -بالرغم من العقود الستة والسابع الذي بدأ قبل سنتين وما طالها، وسيطولها مستقبلاً، من تحولات – أخذ على عاتقه مناقشة الأوضاع العالمية خلال سنة منصرمة، ومن ثم وضع الاستراتيجيات الغربية الأمنية المستقبلية اللازمة في شتى المجالات، التي على العالم الغربي أن يقود بها دول النظام العالمي.. عبر فعاليته الدورية السنوية، التي يحضرها نخبة من القادة السياسيين، ووزراء الدفاع، والدبلوماسيين، والاستخباراتيين، والاقتصاديين، والمفكرين الاستراتيجيين،… إلخ.
وإضافة إلى الالتئام السنوي لمؤتمر ميونيخ، فإن القائمين عليه قد واظبوا على أن يسبق اللقاء دوماً بأيام.. إصدار تقرير يرصد حال النظام الدولي خلال سنة، وتصور الكيفية التي يمكن بها التعاطي مع ما آل إليه.. فى المستقبل. وحول مضمون التقرير تدور فعاليات المؤتمر.
في هذا المقام، تجدر الإشارة إلى أنه – من خلال متابعتنا للتقارير السنوية التي يطلقها مؤتمر ميونيخ للأمن بشكل منتظم منذ سنة 2017 – والحرص على تناولها وتفنيدها في مقالنا الأسبوعي، يمكن القول بمدى أهمية التقرير.. في دقة وصفه للديناميات التي يمر بها النظام الدولي، وتحذيراته المبكرة حول ما يتعرَّض له من «تحولات جذرية ونوعية» و«تصدعات بنيوية»، تحولات جذرية نوعية لأن العالم – حسب تقرير 2017 – بات يعيش ما أطلق عليه التقرير: زمن ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام. وتصدعات بنيوية قد تؤدي به إلى «حافة الخطر».. كما جاء في تقرير 2018. والتساؤل حول من يمكن أن ينقذ النظام العالمي من السقوط، تحت عنوان «من سيضع قطع البازل معاً لاستكمال صورة العالم الجديد؟».. حسب تقرير 2019. وإقرار المؤتمر – بكل شفافية وموضوعية – بما أطلق عليه «العجز الغربي» في تقرير 2020. ثم إثارته الحوار.. حول مستقبل التفاعل بين دول المنظومة الدولية، و«هل سيكون تنافسياً أو تعاونياً بينهم».. حسب ما أثاره تقرير 2021. ومحاولة التقرير طرح رؤية للتغلب على العجز الجماعي الغربي، الذي تسبب في الكثير من الأزمات للكوكب ومواطنيه.
ومن ثم جاء تقرير 2022، يحمل رؤية عنوانها: تغيير المسار ولفظ العجز. وفي ضوء ما سبق، اجتهد تقرير 2023.. في أن يعيد النظر في الكثير من الملفات، التي تتعلق بحياة المواطنين في العالم، لذا جاء التقرير تحت عنوان: «إعادة النظر أو طرح تصور جديد لعالم يقوم على التعاونية التنموية». وذلك حتى «لا يخسر الجميع».. أي أعضاء المنظومة الدولية جميعهم دون استثناء، كما ذكر تقرير 2024.
والقارئ للتقارير السنوية – بغضِّ النظر عن درجة الاتفاق أو الاختلاف مع ما تطرحه – سوف يقدرها كثيراً، لأنها تمثل رصيداً معرفياً وعلمياً وفكرياً وعملياً.. لكثير من القضايا والإشكاليات الاستراتيجية والاقتصادية والبيئية والتقنية والثقافية، التي باتت مزمنة. إضافة للأزمات/الحرائق الجيوسياسية التي تندلع هنا وهناك ولا تزال. وها هو تقرير هذا العام، 2025 – الذي صدر يوم الاثنين 10 فبراير، (أي قبل انعقاد المؤتمر السنوى في الفترة من 14 إلى 16 فبراير).. يواصل ما دأب عليه من رصد وتحليل وتنظير، وتقديم تصورات مستقبلية حول ما يتعلق بالوضعية الراهنة للنظام العالمي ومستقبله.
يأتي تقرير هذا العام (الذي يقع في 151 صفحة) تحت عنوان: التعددية الاستقطابية Multipolarization؛ ليطرح رؤية حول النظام العالمي الراهن، بأنه يعيش حالة من الاستقطاب. ويميز بين التعددية الاستقطابية وبين التعددية القطبية multipolarity؛ حيث الأولى: الاستقطاب هي العملية-الدينامية التي تحكم العلاقات بين الأقطاب/الدول المختلفة. بينما التعددية القطبية هي وصف مادي للنظام العالمي.. لا يعكس طبيعة العلاقات بين دوله. نعم قد تقر بانتقال العالم من النظام الثنائي، فالأحادي القطبية، لكن ذلك لا يعطينا فكرة عن جوهره. وحول هذه الفكرة تدور أطروحة تقرير ميونيخ للأمن لسنة 2025. فبالرغم من أن التقرير يشير إلى أنه – وللوهلة الأولى – يمكن اعتبار التعدد القطبي ميزة.. لأنه يضع حداً لاحتكار قطب أو قطبين فقط على العالم، إلا أنه – بفعل التنافسية الشديدة، التي باتت توجه سلوك الأقطاب القديمة، والجديدة البازغة، والقوى القارية والإقليمية المختلفة – فإن ذلك من شأنه تعريض العالم لأزمات حادة وأخطار مرعبة. فقد باتت كثير من الفواعل المذكورة تسلك سلوكاً «إمبريالياً»، لا يختلف كثيراً عن السلوك الإمبريالي الغربي.. الذي عرفه المجتمع الدولي تاريخياً.
ويلفت التقرير النظر إلى أن هكذا سلوك، يعني عملياً اضمحلال قيمة الخير العام لدول المنظومة الدولية ومواطنى الكوكب؛ إذ إن الاستقطابات الحادة بين دولها – التي امتدت حتى بين الدول التي من المفترض أن بينها روابط ثقافية واقتصادية وتاريخية واحدة – أصبحت تصعب من مهمة مقاومة تلك الاستقطابات، والحيلولة دون تورط العالم في المزيد من الصراعات، التي من شأنها الدفع بالعالم نحو كارثة محققة.. على جميع الأصعدة. ويتناول التقرير مدى إمكانية الاستفادة من التعددية القطبية، من أجل تصويب مسار العالم؛ بحيث يسهم الجميع في بناء عالم أكثر عدلاً وإنصافاً وسلاماً. كما يجيب التقرير – بعد أن يعرض تجليات الاستقطاب العالمي حول العالم – عن سؤال أساسي، هو: كيف يمكن نزع الاستقطاب depolarization؟
وسوف نقدم في مقال الأسبوع المقبل عرضاً لتلك التجليات، وإجابة عن السؤال المحوري للتقرير.
نقلاً عن «الأهرام»