Times of Egypt

موت الضمير أم موت الكبار! 

M.Adam
جمال فهمي 

جمال فهمي 

هل مات الضمير الإنساني حقاً؟.. كثيرون يجهرون – حالياً – بهدا السؤال، وهم ملتاعون من ضعف رد فعل نخبة الإنسانية؛ من الكُتّاب والأدباء وكبار شخصيات العالم.. تجاه المحرقة المروِّعة – وغير المسبوقة في كل التاريخ البشري الحديث – تلك المستمرَّة منذ عام ونصف العام في غزة، وتأكل – بنهمٍ مجنونٍ – أجساد عشرات آلاف البشر.  

هذه الحرب الإبادية، التي يرتكبها كيان مفرط جداً في عنصريته وتوحُّشه وهمجيته.. لدرجة تجعل نماذج إجرامية عرفها التاريخ الحزين للشعوب؛ كالنازية والفاشية ونظام الفصل العنصري المدحور في جنوب أفريقيا، تتواضَع وتتوارى في أغلبها.. خجلاً أمام ارتكابات الكيان الصهيوني في فلسطين. 

الكيان الصهيوني خسر حرب وجوده في المُجتمع الإنساني 

يحدث هذا، تحت غطاء ثقيل من الصمت الدولي المُخزي.. الواصل حدَّ التواطؤ أحياناً؛ بل والمشاركة النشطة في الجريمة.. من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. 

إذن السؤال عن غياب الضمير الإنساني، بل موته أصلاً، له دوافع تبدو قوية، غير أنني أتجاسر وأقول مُجيباً أنَّ ضمير الإنسانية لم يمُت لكنه ربما خفَت، خصوصاً على صعيد النُّخب الحاكمة في بلدان الغرب بالذات، لكنَّ المفارقة المُدهشة التي لا تخلو من معنى عميق، أنه في حين تُبدي أغلبية حكومات هذه البلدان.. استعداداً مُخجلاً للتسامح مع جرائم صهيونية يندى لها الجبين، فإنّ شعوب هذه البلدان تقف على النَّقيض تماماً من مواقف حكوماتها، وتُبدي من التعاطف والتضامن مع ضحايا المحرقة.. في غزة وفلسطين عموماً، ما يؤكد أنَّ الكيان الصهيوني لم يخسر المعركة فقط، وإنما خسر حرب وجوده في المُجتمع الإنساني. 

أما اقوى دليل على خسارته حرب الوجود، فهو تلك المشاعر الشعبية.. المتأججة بالاشمئزاز والغضب، التي أبدتها شعوب الأرض جميعها تجاه كيان العدو، على ما تشير الفاعليات التضامنية العارمة مع فلسطين.. التي رأيناها تتفجَّر في شوارع المئات من عواصم ومدن بلدان العالم كافة؛ بما فيها كل العواصم الغربية. طبعاً ، وللأسف، ليس من بينها أغلب عواصم ومدن العرب، إذ غابت عنها الجماهير قسراً.. لأسباب معروفة! 

Bottom of Form 

الإنسانية تعاني هذه الأيام من فقر مُدقع في المبدعين الكبار 

مع ذلك أعود فأقول إنَّ هناك من المعطيات.. ما يجعل سؤال المواطن العربي عمّا إذا كان الضمير الإنساني قد مات فعلاً سؤالاً معقولاً جداً، أهمها معطيان اثنان: 

أولاً: إنَّ حرب الإبادة التي يشنُّها العدو.. طالت واستطالت في الزمن، وتفاقمت همجيتها ووحشيتها إلى درجة الجنون، ومع ذلك لا يبدو في الأفق ما يشير إلى نهايتها. 

ثانياً: غياب أصوات رموز نُخب الإبداع الإنساني الفكري والفني والأدبي، إلا من رحم ربي، عن فاعليات التضامن مع ضحايا المحرقة الصهيونية. 

هنا تصح الإشارة.. إلى حقيقة أنَّ الإنسانية جمعاء تعاني أصلاً – هذه الأيام – من فقرٍ مُدقعٍ في المبدعين الكبار؛ من وزن جورج برنارد شو، وبراتراند راسل، وبول إيلوار، ولويس أراغون، وألبير كامو، وجان بول سارتر، وغبريال غارسيا ماركيز… إلى آخر قائمة المبدعين الكبار، الذين كانوا يُمثلون بمواقفهم.. تجسيداً راقياً للضمير الإنساني الحي، تجاوز أحياناً مجرَّد التضامن مع المظلومين والمقهورين بالكلام، إلى حمل السلاح دفاعاً عن المبادئ، ومجابهة الظالمين والعنصريين والفاشيين بالقوة، على نحو ما جرى في الحرب الأهلية الإسبانية؛ إذ قاتل الكثير من هؤلاء المبدعين بالسلاح.. في صفوف التقدميين ضد الفاشية، كما أنَّ الموقف نفسه تكرر.. عندما انضم مبدعون كبار إلى صفوف المقاومة المسلحة ضد النازي. 

وبمناسبة الفاشية والنازية، فإنَّ مهرجاناً سينمائياً ذائع الصيت، هو مهرجان «كان» – الذي تأسس في فرنسا عام 1939 – كان من أهم أهدافه.. مجابهة محاولة الفاشية الإيطالية.. تطويع فن السينما لخدمة الأهداف الدعائية لموسوليني، عبر مهرجان «البندقية» السينمائي، الذي كانت أكبر جوائزه.. تحمل اسم «كأس موسوليني». 

وقد ظل مهرجان «كان» دائماً.. منبراً فنياً كبيراً وبارزاً، وكذلك منصةَ تعبير سياسي تقدمي وإنساني لفنانين ونجوم كبار. 

أما أقوى تجسيد لهذا المعنى، فهو ما جرى في دورة المهرجان التاريخية عام 1968 – التي حملت الرقم 22 – إذ أتت آنذاك مواكبةً لذروة أحداث ثورة الطلبة والشباب.. التي هزت بعنفٍ.. بنيان المجتمع والدولة في فرنسا، ومثلت تمرداً هائلاً ومزدوجاً على نفوذ القوى المجتمعية المحافظة، والهيمنة اليمينية على مقاليد السياسة والاقتصاد في البلاد. 

إذن على وقع أحداث هذه الثورة.. جرى افتتاح مهرجان «كان» في ذاك العام. ومن اللحظة الأولى، بدا التوتر الشديد مخيماً على الأجواء، لا سيما أن فاعلياته بدأت بجدل وسجال حار.. بين شباب السينمائيين الفرنسيين (من أمثال جان لوك غودار، وفرانسوا تروفو، وإريك رومر… وغيرهم) إضافة لعدد ليس قليلاً من السينمائيين الأجانب، وتجسَّد هذا الجدل في سؤالٍ: هل ندع المهرجان يستمر ويمضي عادياً.. كأنَّ شيئاً لم يكن؟ أم نوقفه أو نحوِّله إلى منبر احتجاجي، تقتصر أنشطته على عروض الأفلام.. التي تناقش الأوضاع السياسية وآفاق تحولاتها الثورية؟ 

الجدل اتسع واشتعل، وبلغ ذروته في اليوم الثاني للمهرجان، عندما أوقف السينمائيون الشباب عرض فيلم «شراب النعناع».. للمخرج الإسباني كارلوس سورا في قاعة المهرجان الرئيسية، وذهبوا جميعاً – ومعهم «سورا» نفسه – للاجتماع في قاعة «جان كوكتو» المجاورة، حيث قرأ تروفو على الحضور بياناً ملتهباً، وأعلن المخرج التشيكي ميلوش فورمان سحب فيلمه من المهرجان.. تضامناً مع الشباب الثائر، وفعل كلود لولوش الأمر نفسه. أما غودار فقد طالب بتحويل ما تبقى من المهرجان.. إلى ندوات سياسية. لكن سرعان ما تداعت الأحداث، وتفاقمت بعدما دخل المخرج البارز – وعضو لجنة التحكيم رومان بولانسكي – القاعة.. ليعلن – أمام الجميع – استقالته من اللجنة. 

 ثم كرَّت بعد ذلك سبحة الانسحابات، وأُلغيت الدورة الـ22.. تضامناً مع ملايين الشباب والعمال.. المحتجين في شوارع باريس وسائر المدن الفرنسية. 

أما دورة العام الماضي – الرقم 77 – فقد أتت في ذروة «محرقة غزة»، ولم يحدث في المهرجان شيء يُذكر، وفي الدورة المنتظرة.. لا يبدو في الأفق أيضاً أنَّ شيئاً سيحدث. 

»الحضور» الأهم للفنانين والمُبدعين هو في قلب قضايا الناس والمجتمع 

قبل أيام من مهرجان «كان» السينمائي الدولي ذائع الصيت، وبعيداً عن «مصمصة الشفاه» المعتادة، والتساؤلات المزمنة المملة والبليدة – التي تُثار في هذه المناسبة سنوياً – بشأن غياب «الحضور» المصري والعربي عن فعالياته (هل نحضر بسينما التافهين والمهرجين؟!) فإنَّ أحداً ربما لن يتذكَّر تلك الحكاية الصاخبة، التي جرت وقائعها في مثل هذه الأيام قبل 46 عاماً (تحديداً في 19 مايو/أيار 1968).. داخل أروقة قصر المؤتمرات الشهير بشارع «لا كروازيت» – المطل على خليج «كان» جنوب فرنسا – حيث تقام فعاليات المهرجان، وانتهت بانفراط عقده، وإلغاء فعالياته.. بعد 24 ساعة فقط من بدايتها. 

هذه الحكاية أرويها، وأهديها لمن يستحق.. من نجومنا وفنانينا، لأنها – ببساطة – تكشف كيف يكون «الحضور» الأهم للفنانين والمُبدعين.. في قلب قضايا الناس والمجتمع، وتُجسِّد نموذجاً مُناقضاً بالمرَّة.. لما يحدث عندنا؛ حيث غالباً ما يكون «حضور» بعض أهل الفن.. في القضايا والأحداث السياسية ـ حتى بعد ثورتين هائلتين وعظيمتين ـ مصبوغاً بلون النفاق الكابي. 

نقلاً عن «عروبة 22« 

شارك هذه المقالة