أحمد الجمال
لولا أن الوقائع موثقة، ومعظم شهودها أحياء، ما كنت كتبت هذه السطور؛ لأن الطرف الآخر غيَّبه الموت، فرحمة الله عليه.
وقبل أن أسرد تلك الوقائع.. أجدني متأملًا لتصاريف القدر؛ التي تفرض العبرة، وتحول دون الشماتة. وقد شاء القدر أن يقضي الدكتوران محمد مرسي وعصام العريان نحبيهما.. وهما في الحبس، وكلاهما كان من أشد المتشددين على بقاء الرئيس حسني مبارك في محبسه.. إلى أن يموت، عدا أن الدكتور العريان كان – قبل انتخاب مرسي – يقدم نفسه.. باعتباره رئيس مصر القادم.
أما ما أود سرده، فهو متصل بموضوع مقال سابق.. حول علاقة الإخوان المسلمين بالكذب، فقد تلقيت، منذ سنين طويلة – أي قبل 2011 بفترة – دعوة من الزميل الصحفي والإعلامي والنائب مصطفى بكري.. للمشاركة في البرنامج الذي كان يقدمه في قناة «الساعة»، وكانت الحلقة مناظرة بين الدكتور عصام العريان وبيني، حول بعض الأحداث والقضايا والمضامين الفكرية. فوافقت وذهبت، وانتهى وقت الحلقة لنتفاجأ – العريان وأنا – أن إدارة القناة – وتحديداً مالكها كما عرفت.. أحمد قذاف الدم – طلب أن يمتد الحوار لحلقة أخرى، لأنه حوار ساخن ومهم. وعليه فإن الحلقتين موجودتان، وبعض الشهود أحياء.
وفي المناظرة، وبحكم أن الدكتور العريان كان طبيباً، ودارساً للتاريخ – كما كان يؤكد – فقد جاء ذكر وقائع تاريخية قديمة نسبياً، على رأسها حادث ميدان المنشية، الذي تم فيه إطلاق الرصاص على الرئيس جمال عبدالناصر، وكان ذلك يوم 26 أكتوبر 1954. وبدأ الدكتور العريان – وبحسم شديد – يؤكد أنه حادث مصطنع ومفبرك.. لكي يكون هناك مسوغ للعصف بالإخوان المسلمين، الذين كان عبدالناصر يعرف قوتهم، ويخشى من قدرتهم.. على السيطرة على الحكم.
وجاء دوري لأسأل الطرف الآخر – باعتباره طبيباً – ألست تسأل أي مريض يأتيك.. عن تاريخه وتاريخ أسرته المرضي، ليساعدك ذلك في التشخيص؟ وأجاب بالإيجاب، فقلت: أليس لجماعة الإخوان تاريخ في الاغتيالات.. قبل ما حدث في المنشية؛ من اغتيال النقراشي باشا، والقاضي الخازندار، ومحاولات أخرى… وبالتالي، فالحالة التي أمامنا.. لها تاريخ في سياق الاغتيال؟ ثم سألت: هل لو كنت مكان عبدالناصر- أي شاباً في السادسة والثلاثين من العمر، لديه زوجة شابة وأربعة أطفال.. أكبرهم في السادسة من عمره، وأصغرهم ربما في الثالثة.. ثم يقوم بالاتفاق مع شخص أو أشخاص، ويسلحهم بمسدس حقيقي، وذخيرة حية حقيقية، ويطلب إليه أن يطلق عليه الرصاص مباشرة.. بينما زوجته وأطفاله يستمعون للمذياع، الذي يبث المشهد مباشرة – بما فيه صوت الرصاص وصراخ الناس – هل هذا وارد وجائز وإنساني؟
وهنا تلقى مدير الحوار مصطفى بكري.. ما يفيد بأن اتصالاً هاتفياً جاء للبرنامج، وظهر على الشاشة السيد المستشار فتحي رجب – الذي قدم شهادته كقاضٍ – فقال إنه كان وكيلاً لنيابة المنشية عام 1954، وأنه من قام بالتحقيق في الحادث.. الذي قُتل فيه أحد الأشخاص، وذكر المستشار اسمه وعمله، وأن الحادث كان حقيقياً. والمتهم اعترف تفصيلاً.. بما جرى، وبأنه عضو في الجهاز السري للإخوان، وتم تكليفه بالمهمة.
هنا، لم يستطع الطرف الآخر – أي الدكتور العريان – أن يستمر في الادعاء الذي زعمه، بأن الحادث مفبرك. ورغم ذلك فإنهم – حتى الآن – يواصلون الكذب، ليس فقط عن حادث المنشية، ولكن عن أمور أخرى.
ولقد حاولت أن أبحث عن سر هذا الإصرار، واستدعيت مخزون ذكرياتي.. في فترة السجن، وحواراتي مع مجموعة حزب التحرير الإسلامي – الذين كانوا طلاباً في الكلية الفنية العسكرية، وتم تجنيدهم في الحزب بقيادة صالح سرية وكارم الأناضولي، وارتكبوا مجزرة في الكلية للاستيلاء على السلاح ضمن تخطيطهم للاستيلاء على الحكم – وحديثهم عن أن الحرب خدعة، وأن المكر نوعان؛ نوع حسن وخير وواجب، ونوع رديء. وأن المؤمن له أن يكذب.. من باب خداع الخصم، وباب المكر الذي يهدف لتحقيق هدف ذلك المؤمن. ثم إن للمؤمن أن يمارس التقية – أي إخفاء نواياه، والتنصل مما فعله في الآخرين – كلما تمكَّن من هذا التنصل، حتى لو دفع أحد آخر.. ثمن هذا الفعل، والتصقت به (أي الآخر) التهمة.. التي هو بريء منها، أي أنهم بادعائهم.. أن مرجعيتهم دينية، يعمدون إلى كذب أشد وأفدح؛ هو الكذب على الدين، وعلى الشريعة، وعلى الفقه. وأيضاً على كل ما في منظومة الأخلاق الإنسانية الحميدة.. من قيم – على رأسها الصدق والشجاعة والفروسية والنخوة – ويبدو أنهم يتجاهلون عن عمد.. ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يُكتب عند الله صديقاً. وإياكم والكذب…»، وفي الحديث قال: هل يكذب المؤمن؟ قال «إنما يفتري الكذب من لا يؤمن».
نقلاً عن «الأهرام»