جميل مطر
كان مراهقاً يافعاً عندما صدر القراران 181 و194. لم يكن مؤهلاً أو واعياً.. ليحكم على عمق وأهمية هذا المنعطف الأول في مسيرته. تنوَّعت وتعدَّدت الأطراف الصانعة والمحركة لهذه المسيرة الأولى. تعلَّم أن يثق في قادته في الحركة الكشفية، وفي قادته في الحركات «الإيمانية» المبكرة، وفي قادته في «التنظيمات السياسية».. كفروع بدائية أو مراهقة – في المدرسة الثانوية – لتنظيمات أقوى خارج أسوار المدرسة. قيل لنا إن القرارين بالفعل.. نكسة، تنضم إلى نكسات في نضالنا المصري ضد الاحتلال البريطاني لمصر. نكسات تكتسي رداء خرق الوعود، والاتفاقات الغامضة أو الملتوية الأسلوب.
لم يتوقف نضالنا السياسي.. رغم النكسات، ولا توقفت المسيرات الوطنية، ولا المسيرة القومية، ولا التلاحم المشوب بالشك والحذر الدائم.. مع بعض قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية. سنوات مبكرة شهدت تناقضات وخلافات وخطوات أحياناً متسرعة، سببها الظاهر هو الانعطافة الشديدة التي جسَّدها القرار الأممي المؤسِّس للصراع العربي-الإسرائيلي والصادر في عام 1947.
***
أمِن الظلم أم من العدل.. أن نُحمِّل النظام الدولي مسؤولية جميع انعطافات هذه الأمة؟ ساد زعم أنها ليست في الأساس أمة، ثم سقط الزعم عندما دخلت الشعوب حلبة التنوير.. وراحت تواجه مفاهيم غير مألوفة، ومنها القومية العربية والأمة العربية. ولكنه عاد أقوى.
***
أمِن الظلم أم من العدل أنهم – بعد ذلك، أو وسط ذلك – أضافوا إلى صفات الأمة، حتى إن وُجدت، صفة أنها بلا راعٍ من داخلها يقودها، فنصبوا الاتحاد السوفييتي راعياً لفريق في الأمة، ونصبوا الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا راعياً لفريق آخر؟ هبَّت ريح التغيير، وصعدت من جديد – وبشراسة وشر مُبيَّت – نبرات التفتيت والانفراط. وفي النهاية، وكما رأينا في روح وثنايا آخر القرارات، القرار 2803، توحَّد الرعاة، ولكن بعد غياب أو تغييب مفهوم الأمة وغياب أو تغييب مفهوم الراعي.
***
أمِن العدل في كثيره أو قليله، أم من الظلم، أن يقوم الرعاة – الأجنبي منهم والمتوطن حديثاً – وألمحوا إلى حرمان جماعة بشرية من حقها في قوميتها؟ السبب الحقيقي والعنصر الكامن وراء هذا الحرمان.. هو الزعم بوجود أمة أخرى بعقيدة أخرى، منافسة على المكان، عدوانية التوجه، مستمرة في التوسع واحتكار السيطرة على أدوات هذا التوسع.
***
أما الأدوات فكثيرة، والعقيدة على رأسها، فهي أخطرها وأكثرها اختراقاً للهيكل العصبي لأي دولة في الإقليم. هذه العقيدة – في جوهرها – لا تخرج عن الاستراتيجية التي استُخدمت مع قيادات الفاتيكان في العقود الأخيرة، ومع غيرها من كنائس ومعابد ومناظرات المسيحية الأوروبية.. منذ نهاية القرون الوسطى. نراها في أجلى صورها في الاكتساح التاريخي الجاري هذه الأيام.. للكاثوليكية التقليدية في أمريكا اللاتينية، وأقصد الهجمة المتقنة لاقتلاع الجذور التاريخية للثقافة الدينية الإيبيرية.
***
قبل أيام معدودة، صدر القرار رقم 2803. هذه المرة القرار صادر عن مجلس الأمن – وليس عن الجمعية العامة التي صدر عنها القراران 181 و194 – كنا تعلَّمنا – خلال السنوات الأخيرة – ما لم تُلقنه لنا محركات التعليم الجامعي وما بعد الجامعي. ما تلقناه ومارسناه.. يتلخص في كلمات ليست كثيرة، وهي أن الأغلبية ليست بالضرورة القوة النظامية.. الكافية لفرض رأيها، وليست بالضرورة على حق. الأغلبية قررت أن تكون للفلسطينيين دولتهم المستقلة.. على أراضى كذا وكذا. رد نتنياهو بأغلبية كنيست يرفض قرار الأغلبية العظمى لدول العالم.
***
الكثرة ليست قوة، الكثرة قد تصنع حقاً، لكن لا بد للأقوى من لجمها.. قبل أن تحاول فرض هذا الحق.
هذه الكلمات تلخص أيضاً اجتماع أزمتين معاصرتين؛ هما أزمة القرار الدولي في أوضاعه الراهنة، وأزمة القرار السياسي الداخلي.. في عديد المجتمعات التي نعرفها.
***
تعبنا ركضاً وراء حكم بإدانة إسرائيل في ارتكاب جريمة إبادة. الأغلبية في كل موقع كانت معنا.. كضحايا وحلفاء ضحايا. لم تكن معنا الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإسرائيل ومصدر قوته العسكرية ودون مؤازرته ودعمه المسبق.. لا تدخل إسرائيل في مواجهة دبلوماسية أو توسعية. نراها، نرى إسرائيل، لم تحرك بعد لمصلحتها سواعد وعبقريات الصين والاتحاد الروسي، أو لعلها حركت ولم تظهر نتائجها.
***
هناك رأي صاعد – بقوة وسرعة في الغرب – يلمح إلى أن السياسيين في الغرب خاضعون لإرادة وحش لا يشبع. وحش لم يُشبعه اغتيال كينيدي الكبير وكينيدي الصغير، ولا اغتيالات شتى في دول إسلامية وعربية، وحرب إبادة فى فلسطين، ولا محاولات اغتيال جديدة في الغرب.. متستر عليها، وآخرها اغتيال كيرك. وكان البديل الممكن لزهران ممداني. ممداني مهدد وهو على علم أكيد.
لاحظنا – كما ولا شك لاحظ غيرنا – أن في عائلة الرئيس دونالد ترامب.. يرقد هذا الوحش، المسمى بالعقيدة الإبراهيمية، في أحضان زوج ابنته وابنته أيضاً. وأن لا تفسير لكثير من السياسات الأمريكية المعاصرة.. سوى ضراوة وشهية هذا الوحش المهيمن على أعضاء الكونجرس، وقيادات سياسية كثيرة في بقية دول الغرب.
***
فشلنا، ويجب أن نعترف بأخطائنا أو أوجه قصورنا.. في التعامل مع قضايانا الإسرائيلية. وما القرار الأخير من مجلس الأمن.. إلا شهادة تؤكد استمرار نجاح إسرائيل، واستمرار فشل العرب وحلفائهم في الجنوب.. في معظم حالات تواجههما.
تعليقي على ما يبدو للكثيرين مصيراً لنا. مصيرنا ليس محتوماً، ودليلي هو نجاح زهران.. الشاب المؤمن بما يفعل، والرائع في قدرته على تشكيل تحالفات، نجاحه في إجبار ترامب على ترتيب أحسن استقبال له في البيت الأبيض.
***
نجح ممداني لأنه أقنع ترامب بأنه بدون قوته، أقصد قوة ممداني، وخططه لمستقبل نيويورك.. ودونهما معاً، لا نهوض لهذه المدينة الأشهر في أمريكا وفي العالم كله.
أعرف أن كليهما.. عبأ لهذا اليوم جيوشاً من الحلفاء في الحزبين كما في الإعلام، وكلاهما اشتغل وساوم وربما تنازل قليلاً، ليكسب كثيراً وفوراً. أعرف كل هذا، ولكني أعرف أيضاً – بناء عن تجربة – أن ترامب لا يمكن إلا أن يكون قد أضمر لممداني شراً.
فالقضية – موضوع الخلاف والوفاق بينهما – أغلى وأهم من أن تترك لشخص.. هو النقيض تماماً لكل ما يمثله الطرف الآخر.
***
نرى في السياسة الدولية عجباً. لا أتحدث عن نقص في الأمن وفي الأمان، ولكن عن سببه.
أكتب عن الانحدار المدهش في مستوى مهارة وذكاء السياسيين بشكل عام.
لا أكتب عن عالمنا العربي أو الأفريقي، أو عالم الجنوب.. كما ظهر في قمة العشرين التي انعقدت في دولة جنوب أفريقيا، أو في قمة المناخ التي انعقدت في البرازيل؛ ففي الحالتين تعمدت الولايات المتحدة إصابة القمتين بالفشل، وبالفعل فشلتا.
نحن، وأقصد عالم الجنوب، نعيش في مرحلة تدريب على العمل السياسي.. في غياب الولايات المتحدة.
أمريكا غائبة؛ لأنها مشتتة الفكر والتقدير.. لدور العمل الأممي، في حال غاب عنه القطب الأعظم؛ غاب بمشاركته، وغاب بقيادته، وغاب بتمويل أنشطته.
أمريكا تغيب بتدرج مدهش خلال العهود الرئاسية الأخيرة.
***
المراهق عند صدور القرار السيئ رقم 181.. صار مُسناً عند صدور القرار الأسوأ رقم 2803.
نقلاً عن «الشروق«