سمير مرقص
(1)
مكتبتي: أنا
هل قرأت كل هذه الكتب؟ ما عدد الكتب التي تقتنيها؟ كيف تتمكن من العثور على الكتاب الذي تريده.. ضمن مكتبة تتضمن آلاف الكتب؟ هذه الأسئلة – وغيرها – دائماً ما يطرحها عليَّ زوَّاري/زوَّار المكتبة. ولاحظت أن إجاباتي.. كانت تتجاوز الإجابات المباشرة حول العدد، وتقنيات القراءة والبحث عن الكتب، حيث كنت أنطلق في شرح ماذا تعنيه المكتبة بالنسبة لي.
وذات مرة، لاحظ أحد زوَّاري أن حديثي عن المكتبة، وما تضمه من كتب تناهز الثلاثين ألف كتاب، يعكس في واقع الأمر محطات حياتي المتعاقبة على مدى نصف قرن. وأن مكتبتي – في واقع الأمر – هي أنا.. من جهة. ومن جهة أخرى، ما أنا إلا نتاج هذه المكتبة. لم تكن الكتب بالنسبة لي: كلمات وسطوراً وصفحات مجردة، بل كانت معاني وأفكاراً وخبرات وقيماً واتجاهات.. تتضافر جميعاً في صياغة المرء. ومن خلال فعل القراءة، تتكشف تلك المعاني والأفكار، وتتراكم الخبرات وتتحدد الاتجاهات، ومن ثم يتشكل الإدراك، ويتبلور الموقف، ويتحدد الفعل المتصالح.. والمتسق مع الوعي.
بهذا المعنى، لم تكن المكتبة بالنسبة لي مكاناً ساكناً، أو مستودعاً صامتاً، وإنما بيئة حية.. نابضة، تتوفر فيها كل أسباب الحياة ومقوماتها. تنطق الحكمة، وتلهم الفكرة، وتمنح الونسة، وتهب الألفة. هكذا تشكلت “أناي” – إن جاز التعبير – أو الأنا.. لا بالمعنى النرجسي الضيق، بل بالمعنى الوجودي والرمزي، حيث جعل المكتبة/الكتب ترسم ملامحي، وتصوغ هويتي.
(2)
مكتبتي ذاتي
ومع مرور الوقت، أصبحت مكتبتي مرآة ذاتي. وإذا كانت الذات تُعرف وتُثمن.. بوعي الإنسان بنفسه وبما حوله؛ أي بقدرة الذات على التفاعل بين ما تكنه داخلها من قيم وأفكار واتجاهات وقدرات، وبين السياق: السياسي والثقافي والاقتصادي.. الذي تتحرك فيه، فإن ثمرة ونتاج هذا التفاعل، سوف تجدها بكل سهولة ويسر.. في كتب المكتبة المتنوعة، التي تعكس الذاتيات المختلفة للمرء في مستوياتها المختلفة: الفردية، والاجتماعية، والوجودية، والمركبة.
هكذا تصير المكتبة انعكاساً للذات، والذات انعكاساً للمكتبة. وصارت تلك العلاقة التفاعلية-الجدلية، تنمو مع تقدم العمر، ما أدى إلى: التحرر الدائم للذات، والتجديد الممنهج للعقل من جهة، والتوسع – الذي لا سقف له – في مواد المكتبة من جهة أخرى.
(3)
مكتبتي سيرتي ومنهجي
حين شرعت أحدثكم عن مكتبتي، وعندما قررت أن أحدثكم عن علاقتي بمكتبتي؛ وأصفها بأنها حياتي، وتكافئ «أناي».. وذاتي. لم أكن أبالغ. بل إنني – في حقيقة الأمر – أصف واقعاً معاشاً وممتداً على مدى عقود؛ فحياتي لا تُفهم خارج مكتبتي، وذاتي لا تكتمل إلا بها، وأنا لست سوى نتاج لحوار طويل مع الكتب التي عشتها.. من خلال ما تتضمنه من أفكار وخبرات، ومنحتني حياة متجددة؛ فمكتبتي تحفل بكل ألوان المعرفة، فلقد كنت حريصاً – منذ بدأت تكوينها – على ألا تكون مكتبة ضيقة الأفق والاهتمامات، بل مكتبة رحبة متعددة الآفاق.
وبالرغم من أن الأديب الأشهر في الكتابة عن المكتبات الكندي/الأرجنتيني ألبرتو مانجويل (77 عاماً) – في كتابه: المكتبة في الليل – قد كتب أن المكتبة بالتعريف.. هي نتيجة الاختيار، وبالضرورة مقيدة بمداها. وكل اختيار يُقصي الآخر…، إلا أنني حرصت – في اختياراتي – على أن تكون مكتبتي «ديمقراطية»؛ حيث يكون الاختيار، ونقيضه.. حاضرين. فمن خلال ما يمكن أن نطلق عليه: «جدل القراءة/ الاطلاع».. للفكرة/ للأفكار، ونقيضها يمكن استخلاص الحقيقة/الحقائق بدرجة أو أخرى. لذا كانت مكتبتي – بمعنى من المعاني، إذا ما استعرنا.. مجدداً، مانجويل – «انعكاساً لي» على مستويين: الأول: السيرة. والثاني: المنهج. بالنسبة للسيرة؛ فمكتبتي هي السيرة الأعمق لحياتي، أو حسب أحد المفكرين: «السيرة التي لا تُكتب بالكلمات وحدها، بل تُقرأ في عناوين الكتب المصفوفة على الرفوف، وفي الهوامش التي خططتها بيدي، وفي علامات الاستفهام.. التي تركتها على الصفحات. إنها السيرة التي لا تزول لأنها محمولة في الذاكرة وفي الرفوف معاً. وتظل – ما دمت حياً – فضاءً للتجدد، وملاذاً للفكر، وبيتاً للروح».
أما بالنسبة للمنهج؛ فلقد آمنت بضرورة إسقاط الحواجز بين حقول المعرفة، وبأهمية النظرة المتعددة الزوايا والأبعاد للظواهر، ولم يكن يتأتى ذلك.. بدعم من مكتبة تتكون وفق هذه المنهجية والروحية. أقصد مكتبة عابرة للحقول المعرفية، وحريصة على تتبع التطور المعرفي، وجديد الأفكار. هكذا صارت مكتبتي، ليست رفيقة أو شاهدة فقط، بل شريكة عمر، تلازمني بقدر ما ألازمها، وتُعيد صياغتي بقدر ما أعيد ترتيبها.
(4)
مكتبتي في كلمات
الخلاصة، المكتبة ليست مجرد رفوف محملة بالكتب، ولا هي جدران تحتضن أوراقاً ومجلدات. المكتبة هي صورة الإنسان، وقد تجسدت في هيئة مرئية: ذاكرة ممتدة، وحوار لا ينقطع مع الزمان والمكان، وشاهد على التحولات الدقيقة.. التي تصوغ مسيرة الفرد والجماعة. لذلك لم تكن مكتبتي.. يوماً، كياناً خارجياً عني، بل هي جزء من تكويني، قطعة من ذاتي، بل لعلها هي ذاتي. وقد تشكلت في صورة مادية؛ فحيث أضع كتاباً أضع أثراً من نفسي، وحيث أرتب المجلدات أرتب تاريخي الخاص، وحيث أفتح صفحة إنما أفتح باباً في داخلي.
وإذا ما أردنا أن نرصد الدور/الأدوار – التي تلعبها المكتبة – شريطة الاختيار الدقيق والصائب، الذي يحمل إبداعاً حقيقياً وأصيلاً نقول، على أمل التفصيل في مناسبة قادمة، بأن المكتبة: رحم يمنح ميلاداً متجدداً، وحاضنة تؤمن السلامة الصحية.. للذهن والروح، وبيئة تنموية مستدامة.. للإبداع والاكتشاف، والبحث عن المعنى/ نظام المعاني.
نقلاً عن «المصري اليوم»