Times of Egypt

مقالة مهمة لطه حسين بعنوان «استقلال الجامعة» نُشرت أول أكتوبر 1935 

M.Adam
محمد أبو الغار 

محمد أبوالغار 

بمناسبة مرور 90 عاماً على صدور «مجلتي» – التي أصدرها الصحفي والقصاص الشهير أحمد الصاوي محمد، الذي أصبح رئيساً لتحرير الأهرام – أعيد نشر مقالة لطه حسين نشرت في «مجلتي». 

«ترددت كلمة استقلال الجامعة على ألسنة المصريين، وتردد معناها في رؤوسهم منذ أعوام طوال.. حتى لقد كان النطق بها – في بعض الأحيان – يثير على بعض الثغور ابتساماً، ويُذكي في بعض القلوب آلاماً. ولعل أول مرة خطر فيها استقلال الجامعة على بال المصريين، وجرت به ألسنتهم. كانت قبل أن يوجد هذا الجيل الذي يختلف الآن إلى الكليات، ويتهيأ للنهوض بالأمانة الجامعية الكبرى، لعلها كانت منذ أكثر من ربع قرن – حين فكر قادة الرأي من المصريين، وعلى رأسهم سعد زغلول وقاسم أمين رحمهما الله – في إنشاء معهد حر مستقل للتعليم العالي، لا تصل إليه يد الأجنبي، ولا تعبث به قوة السلطان، ولا يخضع لما كانت تخضع له المعاهد العلمية في مصر؛ من سيطرة الحكومة، وضيق الأفق، والتشكل بما كان يراد لشبان المصريين من الأشكال، التي كانت تلائم ما كان مألوفاً من نظام الحكم، وما كان يراد للمصريين من حياة سياسية متواضعة.. لا حظ لها من عزة ولا من كبرياء. 

كان ذلك في أول هذا القرن.. حين كان السلطان الإنجليزي مستقراً ثابتاً متغلغلاً في أعماق الحياة المصرية، وحين كان السلطان المصري مستكيناً مذعناً.. يتملق الإنجليز من ناحية ويتملق الترك من ناحية أخرى، وحين كانت آمال المصريين معتدلة محدودة، لا تكاد تبلغ الدستور. وإن بلغته، فهي لا تكاد تحققه، وتتعمق ما يمكن أن ينشأ عنه من النتائج والآثار. 

في ذلك الوقت، كان التفكير في الجامعة أمراً عظيماً.. هو السبيل الوحيد المستقيم، إلى إحياء الضمير المصري، وإشعار المصريين بحقهم في الحياة والاستقلال. 

كانت فكرة استقلال الجامعة واضحة جلية في نفوس الذين أنشأوا الجامعة. صوَّرها قاسم أمين رحمه الله أصدق تصوير وأبدعه.. في بعض خطبه، حين أعلن أن الغرض من إنشاء الجامعة إنما هو إقامة معهد للعلم في مصر؛ يدرس فيه العلم لنفسه، لا لغرض آخر من الأغراض العلمية الطارئة الزائلة، ويدرس فيه العلم حراً طلقاً.. ليكون للشعب عقول حرة طلقة ونفوس أبية عزيزة، تقدِّر معنى الكرامة والعزة والاستقلال. 

ولم يتردد الذين أنشأوا الجامعة.. في تسليم جامعتهم المستقلة إلى الحكومة المصرية المستقلة، ولكنهم – في الوقت نفسه – حرصوا أشد الحرص.. على أن يأخذوا على الحكومة عهداً مسؤولاً، برعاية استقلال الجامعة والاحتفاظ به كاملاً. فنُص على ذلك في عقد التسليم ، واعترفت الحكومة المصرية منذ ذلك الوقت بأن التعليم العالي يجب أن يكون حراً مستقلاً. 

ومنذ ذلك الوقت، لم يبقَ استقلال الجامعة أملاً كما كان في أول القرن، وكما كان في نفس قاسم رحمه الله، وإنما أصبح حقيقة واقعة.. اعترفت بها الحكومة وسجَّلها البرلمان الوطني، وقامت على حمايتها وصيانتها وتنميتها الحكومات الشعبية البرلمانية على اختلافها، حتى كانت المحنة القومية العامة التي قادها نظام إسماعيل صدقي باشا بإلغاء دستور 1923. 

هنالك لم يتعرض استقلال الجامعة وحده للخطر، وإنما تعرضت مرافق مصر كلها لهذا الخطر. هنالك أوذيت مصر في استقلال التعليم، كما أوذيت في استقلال القضاء، كما أوذيت في كل فروع الحياة، هناك عصفت الأهواء الجامحة بالجامعة والجامعيين، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أبت حكومة صدقي باشا وأبى معها برلمانها.. إلا أن يصبح الظلم والعدوان شيئاً يقره البرلمان، ويشرعه القانون، ويُفرض على المصريين كلهم فرضاً، فغيرت نظم الجامعة، ومسخت قوانينها، وبُسط عليها سلطان الوزير، وأصبحت أداة خطرة لسياسة خطرة.. أقل ما توصف به أنها لم تكن ترمي إلا إلى إذلال الأساتذة والطلاب، وتسخيرهم للأهواء والشهوات، وأخذهم بالطاعة.. في غير حرية ولا روية ولا تفكير، واتخاذهم وسيلة إلى إذلال الشعب كله، وتعوده التواضع والقناعة والخنوع، والعدول عما كان قد رسم لنفسه من مُثل عليا في الحرية والاستقلال. 

وقد صبرت مصر للمحنة كلها أبية كريمة، وخرجت مصر من المحنة كلها ظافرة عزيزة. 

وها نحن نردد من جديد على نفوسنا.. فكرة استقلال الجامعة، ونُجري من جديد على ألسنتنا كلمة استقلال الجامعة، وها نحن نستقبل عاماً جامعياً جديداً بحدث جامعي جديد. 

نعم وأصبح التعليم العالي كله – سواء منه النظري والفني – بناء واحداً، يعمل في تشييده كل الذين يؤمنون بحق مصر في العزة والكرامة، وبواجب مصر للرقي والحضارة. وأصبح التعرض لاستقلال الجامعة.. تعرضاً لاستقلال العلم والفن جميعاً، وأصبح الاعتداء على استقلال الجامعة.. اعتداء على العقل المفكر كله في هذا البلد الأمين. 

محنة الجامعة لم تكن شراً كلها، وإنما كان فيها خير كثير، وهي أن أعضاء هيئة التدريس – في التعليم العالي كله – قد أصبحت تملك على السلطان عهداً مسؤولاً، هو أنه لا ينال أحداً منها نقل.. حتى يرضى مجلس الجامعة، وألا يمس أحداً منها عزل.. حتى يستشار مجلس الجامعة. 

فاستقلال الجامعة إذن، يتكون الآن من عنصرين واضحين. أحدهما القوة الذاتية التي تستمتع الجامعة بها الآن بعد أن أصبح التعليم العالي كله كتلة واحدة. والثاني هذه القوانين التي اعترفت لرجال التعليم العالي بما لهم من حق وسجلت ما عليهم من واجب. 

ولم يبقَ إلا عنصر ثالث.. هو أهم وأجلُّ خطراً من هذين العنصرين. وهذا العنصر الأساسي الخطير الذي لا قوام للجامعة بدونه هو شعور الجامعيين بكرامتهم وإيمان الجامعيين بما يجب عليهم لوطنهم ولجامعتهم من حق، وحرص الجامعيين أساتذة وطلاباً على أن يكونوا رجالاً كراماً قبل كل شيء وفوق كل شيء. وعلى أن يؤثروا العلم بما يملأ قلوبهم من حب، وما تملك نفوسهم من جهد، واستعدادهم الصادق الصحيح لفداء الجامعة والعلم بالمنصب والراحة وهدوء البال. فلن يكون الجامعي جامعياً حقاً.. حتى يكون مستعداً أصدق الاستعداد لأن يضحي في سبيل الجامعة بأنفس شيء عليه، كما أن الوطني لن يكون وطنياً حقاً.. حتى يكون مستعداً أصدق الاستعداد وأخلصه لأن يضحي في سبيل الوطن بنفسه ودمه. 

ما أجدر للجامعيين أن يفكروا في هذا كله ويتدبروه، وأن يشعروا بأنهم لم يبقوا منذ الآن ضعافاً.. إن أرادوا القوة، ولا أذلاء.. إن أرادوا العزة. وما أجدرهم أن يعتبروا بالحياة الجامعية في البلاد.. التي تعرف للجامعات حقها، والتي تعرف فيها الجامعات.. ما لها من حق، وما عليها من واجب». 

طه حسين 

14 سبتمبر سنة 1935 

 
قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك 

 
نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة