Times of Egypt

مقابر العبيد بناة الأهرامات!

M.Adam
زاهي حواس

زاهي حواس

وصلتني رسالة على هاتفي.. من صحفي فرنسي يطلب مقابلتي في مكتبي بحي المهندسين، وقد حدد اليوم والساعة، وأخبرني أن حفيدته ستكون بصحبته! بدايةً ظننت أن الصحفي يريد عمل حوار صحفي، وبالفعل قمت بالرد على الرسالة بالإيجاب، وأرسلت إليه – عبر تطبيق تحديد الأماكن – موقع مكتبي. وفي اليوم والموعد المتفق عليهما، حضر الصحفي الفرنسي ومعه ملاك صغير لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، وبمجرد أن دخلت إلى مكتبي أخذت تتجول بين جنباته؛ تقلب في الكتب الموجودة على الأرفف، وتتفحص النياشين ودروع التكريم. ولأن الفتاة الجميلة لا تعرف من الإنجليزية سوى كلمة beautiful، أصبح كل شيء في مكتبي جميلاً! لم تجلس للحظة واحدة، وكان يبدو أنها تعاني من فرط الحركة.

نعود إلى جد الفتاة – الصحفي الفرنسي – الذي كان يبدو أصغر بكثير من أن يكون في العقد الثامن من عمره.. كما أخبرني هو. وقد بادرني بتعريف نفسه وقال: لم آتِ لمقابلتك لإجراء حديث صحفي! لقد تقاعدت عن العمل منذ خمس سنوات، وأنا الآن أستمتع بحياتي مع عائلتي. وقد جئت إلى مصر هذه المرة.. ومعي حفيدتي، لزيارة المتحف المصري الكبير بعد افتتاحه، إنه شيء رائع؛ وضخامته مثيرة للخيال. إن حفيدتي تقول إنه أعظم وأجمل متحف رأته في حياتها، وقد زارت معظم متاحف أوروبا، فهي تعشق التاريخ والآثار.

استطرد الرجل المهذب قائلاً: لا أعتقد أنك تتذكرني؟!. لقد تقابلنا منذ 28 سنة مضت عندما جئت إلى باريس.. محاضراً عن اكتشافاتك حول الأهرامات، والكشف عن مقابر العمال بناة الأهرامات.

هنا كنت أحاول جاهداً تذكر الرجل، لكني لم أنجح، فقلت له: عذراً إن لم أكن أذكرك، لقد سافرت إلى فرنسا لأحاضر في العديد من مدنها. وسألته: هل قمت بعمل حوار صحفي معي في ذلك الوقت؟ وكان رد الصحفي: لا! لكنك علمتني درساً لم أنسه طوال حياتي، بل إن هذا الدرس جعلني إنساناً مختلفاً وصحفياً مختلفاً!

كانت الدهشة تسيطر عليَّ وأنا أسمع تلك الكلمات من الصحفي الوسيم الجالس أمامي، بينما حفيدته الجميلة منشغلة بعمل حفائر في مكتبي! فقلت له: من فضلك قصَّ عليَّ حكايتك، فقال: في ذلك اليوم كنت أحد الحاضرين لمحاضرتك الرائعة.. عن الاكتشافات الحديثة حول الأهرامات، ولكنني جئت إلى المحاضرة مشبعاً بالغطرسة الغربية، وأننا نحن الأوروبيين أصحاب المثل الإنسانية العليا، والمبادئ والحريات، وكنت قد أعددت لك مفاجأة لإحراجك، وعمل موضوع صحفي لتشويه محاضرتك. 

بعد انتهاء المحاضرة رفعت يدي، فأعطيتني الكلمة معتقداً أنني سأوجه لك سؤالاً، لكنني – بكل غرور وغطرسة – قلت لك: أشكرك على محاضرتك، لكن أعتقد أنك نسيت أن تخبرنا بأن مَن تسميهم أنت بالعمال بناة الأهرامات.. كانوا عبيداً، سخَّرهم الفراعنة بالقوة.. لحمل الأحجار، وبناء المعابد والأهرامات.. التي تتفاخر بوجودها في بلدك، بينما يجب عليك الشعور بالخجل والأسف.. على كل ما ارتكبه أجدادك الفراعنة.. في حق العبيد المسخرين! يقول الصحفي: هنا أطبق الصمت على القاعة انتظاراً لردك، الذي كان أقوى من وقع لوح الثلج على الصفيح الساخن!

لقد قلت لي بهدوء عجيب: نعم، أتفق معك كل الاتفاق! وأنا بالفعل أشعر الآن بالخجل والعار، وأعتقد أن فرنسا أيضاً بلد الحريات والمبادئ الإنسانية، يجب أن تشعر هي كذلك بالخجل والعار – الذي أشعر به – لإيوائها آلاف القطع الأثرية الفرعونية، التي صُنعت بالسخرة وتعذيب العبيد! وأنا على استعداد للعودة الآن إلى مصر ومعي مسلة رمسيس الثاني.. الموجودة في ساحة الكونكورد، وسقف معبد دندرة.. الموجود في متحف اللوفر، بالإضافة إلى تمثال الكاتب المصري، وأكثر من 58 ألف أثر فرعوني.. موجود في فرنسا؛ منها الصناديق العشرون الضخمة – المحملة بالآثار الفرعونية التي شيدها العبيد – والتي أهداها والي مصر، محمد علي باشا، إلى جان فرانسوا شامبليون، أول مَن قرأ اللغة المصرية القديمة. 

وبعد أن أعود إلى بلدي ومعي كل تلك الآثار الفرعونية الموجودة في بلدك.. الذي يجب أن تشعر بالخزي والعار، لعرضه آثاراً صُنعت بالسخرة.. كما تقول أنت، سأقوم بدعوة أكثر من ألف من علماء المصريات الفرنسيين.. إلى تقديم اعتذار لسيادتك، عن إخفائهم حقيقة الآثار الفرعونية التي بناها العبيد! بل سأدعوهم هم أيضاً.. إلى أن يشعروا بالخجل والخزي والعار، لأنهم كذبوا – في مؤلفاتهم عن تلك الحضارة – ولم يذكر واحد منهم.. أنها حضارة بُنيت بالسخرة.. كما تقول أنت!

يقول الصحفي: بعدما قلت هذا، مرت ثوانٍ من الصمت، ثم انفجرت القاعة بالتصفيق والتهليل والضحك، وكنت أنا أتصبَّب عرقاً. لقد كنت أقف.. كشخص تافه مغرور علّمه حكيم مصري.. درساً لن ينساه طوال حياته. دكتور زاهي! لقد جئت اليوم فقط.. لأشكرك على الدرس الذي لقنتني إياه. بعدها تواضعت، وقرأت، وأجريت حوارات صحفية مع علماء المصريات الفرنسيين، وذهبت إلى المتاحف والمكتبات بحثاً عن الحقيقة؛ التي قادتني في النهاية.. إلى المعرفة واليقين، الذي أكد لي أن الجمال لا يمكن صنعه بالسخرة.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة