د. نيفين مسعد
أول ما يتبادر إلى الذهن.. عند مطالعة عنوان هذا المقال، هو أنه سوف يركِّز على نص المادة الثالثة في الإعلان الدستوري السوري؛ وهي المادة التي تنصُّ على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. وذلك لأن هذه المادة، كانت محل انتقاد واسع من جهات عديدة، مخافة أن تُفضي إلى إقامة دولة دينية في سوريا..ا مع العلم بأن المادة المذكورة، كانت موجودة في مختلف الدساتير منذ الاستقلال.
وأعتقد أن سبب الخوف، ينبع من الخلفية الأيديولوچية لحكام سوريا الجدد، وانتمائهم إلى مدارس فقهية متشدّدة، وهو ما لم يكن الحال في ظل حكم آل الأسد. ويذهب بعض المحللين – المحذرين من احتمالات تأسيس حكم ديني في سوريا – خطوة أبعد في تخوُّفهم؛ فيذكر الأكاديمي السوري نجيب چورچ عوض.. أن هناك لجنة شرعية ظهرت إلى جانب الرئيس السوري في أثناء بث الإعلان الدستوري؛ مما يوحي بأنها ستتولى مراقبة المشروعية الفقهية.. لكل ما يقرره الحكام الجدد في المستقبل، وشبَّه عوض هذه اللجنة بمجلس/مجمّع تشخيص مصلحة النظام في إيران.. معتبراً أنها ستكون النسخة السنيَّة منه.
وبغضِّ النظر عن أن مراقبة المشروعية الفقهية والدستورية في إيران.. هي من وظيفة مجلس صيانة الدستور، وليس مجلس تشخيص مصلحة النظام، فإن رأي الأكاديمي السوري يعطينا فكرة عن الهواجس، التي تحيط بالمادة الثالثة من الإعلان الدستوري، وهي هواجس مبرَّرة، لكنها ليست هي موضوع المقال.
أما الموضوع، فهو يخص العلاقة بين المرجعيات الثلاث – التي استند إليها الإعلان الدستوري – وهي: الدستور الصادر في عام 1950، وإعلان انتصار الثورة السورية في 29 يناير 2025، وتوصيات مؤتمر الحوار الوطني في 25 فبراير (وهو المؤتمر الذي دام يوماً واحداً).
يرتفع سقف دستور 1950 جداً.. عن البنود الواردة في الإعلان الدستوري.
وهنا، يكفي أن ننظر للنقطة الخاصة بوضع رئيس الجمهورية، وصلاحياته في دستور 1950.. لندرك أنه لا علاقة له بالإعلان الدستوري؛ فرئيس الجمهورية في دستور 1950، ينتخبه ثلثا نواب مجلس الشعب لمدة خمس سنوات، لا يجوز تجديدها.. إلا بعد انقضاء خمس سنوات كاملة على رئاسته. ودع عنك أن رئيس الجمهورية الحالي في سوريا، عيَّنته بعض الفصائل المسلَّحة، فإنه لا يوجد أي نص يشترط عدم ترشُّح الرئيس مجدداً.. بعد انقضاء الخمس سنوات، من أجل إتاحة الفرصة أمام باقي أفراد الشعب.
أكثر من ذلك، فإن الرئيس في دستور 1950، يوقِّع مراسيم تعيين القضاة.. التي تُرفع إليه، ولا يقوم بنفسه بالتعيين. أما في الإعلان الدستوري، فالرئيس يعيِّن أعضاء المحكمة الدستورية العليا، والوزراء، وثلث أعضاء مجلس الشعب، وأعضاء اللجنة.. التي تشكّل هيئات فرعية، تنتخب الثلثين المتبقيين. هذا، مع العلم أن مدَّة مجلس الشعب عامان ونصف العام.. قابلة للتجديد، وهذا يعطي الرئيس – لو أراد – صلاحية إعادة تشكيل المجلس بعد انقضاء العامين ونصف العام.. في حالة الاختلاف معه.
والرئيس في دستور 1950، يخضع للمحاكمة أمام المحكمة العليا.. في حالات خرق الدستور، والخيانة العظمى، والجرائم العادية. أما في الإعلان الدستوري، فلا يخضع الرئيس لأي نوع من المحاسبة – لا السياسية، ولا القانونية – عن أفعاله. والخلاصة، أننا أمام نظام للحكم يدور حول شخص الرئيس.. دون رقابة عليه من أي جهة كانت.
وعلى صعيد آخر، تتضمَّن بنود دستور 1950 بعض ما لم يرد ذكره في الإعلان الدستوري؛ من حقوق وحريات أساسية، رغم فارق التوقيت الزمني بين الوثيقتين، وبالتالي نجد في الدستور بنوداً غائبة عن الإعلان، تخص الحق في الاجتماع والتظاهر السلمي، والحفاظ على سرية المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية، والحق في الطمأنينة والضمان الاجتماعي، كما نجد ضمانات تفصيلية لسلامة إجراءات القبض على المشتبه فيهم، والتحقيق معهم، ومحاكمتهم.. تتجاوز بكثير نصوص الإعلان الدستوري.
وعندما ننتقل إلى توصيات مؤتمر الحوار الوطني، نجد أن سقفها أيضاً كان أعلى من الإعلان الدستوري.. في نقطة جوهرية، تخص حصر السلاح بيد الدولة؛ إذ تنص التوصية الثالثة للحوار الوطني، على اعتبار أن أي تشكيلات مسلَّحة خارج المؤسسة الرسمية.. هي جماعات خارجة عن القانون، بينما أن المادة التاسعة في الإعلان الدستورى، تحظر إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، وهذا نصٌّ يتجه للمستقبل، لكن المادة لا تجرِّم الميليشيات القائمة بالفعل، وما أكثرها في سوريا.
كذلك جاءت التوصية السادسة عشرة – من توصيات الحوار الوطني – شديدة التفصيل.. في ضرورة تفعيل دور المجتمع المدني؛ في مجالات تحقيق التنمية والاستقرار، والمساهمة في إعادة الإعمار. أما الإعلان الدستوري، فاكتفى بالإشارة في سطر واحد.. إلى أن الدولة تدعم عمل الجمعيات والنقابات.
ويمكن تفسير الفجوة القائمة بين النصوص المذكورة، بأن مؤتمر الحوار الوطني – وإن لم يكن ممثلاً لمختلف أطياف المجتمع – ضمَّ بعض عناصر المعارضة، ما سمح لها بأن تُدلي بدلوها، وهو ما غاب عن لجنة وضع الإعلان.
أما في ما يخص مخرجات مؤتمر إعلان انتصار الثورة السورية، فيلفت النظر أنها نصَّت – في النقطة السادسة – على حلِّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة. وهذا يختلف عن الإعلان الدستوري.. الذي لا هو أشار إلى إدماج الفصائل العسكرية، ولا اقترب من مصير التكوينات ذات الطبيعة المدنية والسياسية. ومن المفارقة أن إسقاط هذه الإشارة – في الإعلان الدستوري – جاء بعد توقيع الاتفاق مع «قوات سوريا الديمقراطية».. على الاندماج السياسي والعسكري.
توجد فرصة لمراجعة الإعلان الدستوري، وتحقيق الاتساق بين مرجعياته المختلفة. لكن حسب نص المادة خمسين.. يُشترط أن يأتي التعديل باقتراح من رئيس الجمهورية، ويوافق عليه ثلثا أعضاء مجلس الشع؛ مما يتطلَّب السعي بدايةً.. لإقناع الرئيس بالتعديل، وذلك إذا ما كان «أبناء سوريا الأحرار».. هم في مرحلة «يكنسون فيها إرث الاستبداد» فعلاً، وفق مقدمة الإعلان.
نقلاً عن «الأهرام»