عمر إسماعيل
مع الاحداث المتتالية في منطقتنا – وعلي حدودنا – نحن الآن في حاجة ملحة.. لأن نعالج – وبعمق تاريخي واستراتيجي – سؤالًا حساسًا:
هل كانت معاهدة السلام اعترافًا ضمنيًا من السادات بالفشل؟ وهل منحت إسرائيل المساحة الكاملة.. لبناء مشروع الهيمنة الذي نراه اليوم؟
وحتي نجيب علي هذا السؤال المهم، لابد ان نسأل.. هل كانت معاهدة السلام معاهدة بلا توازن؟ وهل كتب السادات نهاية الدور الإقليمي المصري؟ وبداية الهيمنة الإسرائيلية؟
هناك لحظات.. لا تُقرأ فقط بما قيل – أو كتب – فيها، بل بما لم يتم ذكره او يُتَحدث عنه. ففي تاريخ مصر الحديث، لا توجد لحظة أثقل أثرًا، ولا أعمق ظلا.. من توقيع الرئيس أنور السادات على معاهدة السلام مع إسرائيل في مارس 1979. تلك المعاهدة التي سُوّقت.. بوصفها «انتصارٌ للسلام»، لكنها – من حيث النتائج الاستراتيجية – قد تكون فتحت الباب أمام مشروع إقليمي، كانت إسرائيل تنتظره طويلًا: شرق أوسط بلا مقاومة، بلا وزن عربي موحد، وبلا مصر في موقع القيادة.
السادات… من العبور إلى العبور المعاكس
لا يمكن قراءة قرار السادات في كامب ديفيد، إلا بوضعه ضمن سياق شخصي وسياسي معقد. الرجل – وقد خرج لتوه من حرب أكتوبر – كان يبحث عن «نصر شخصي».. يُسجَّل له وحده، وليس لـ«مؤسسة يوليو»، التي أراد أن يتحرر من عباءتها. ولأنه كان يظن أن حرب 1973.. هي ذروة ما يمكن أن تحققه مصر عسكريًا، فقد اندفع إلى طريق السلام منفردًا، ظنًا أن أمريكا – وليس العرب – هي من تملك مفاتيح المستقبل.
لكن السؤال الاستراتيجي.. الذي لم يُطرح بما يكفي: هل كان ذلك اعترافًا ضمنيًا من السادات بالفشل؟
الإجابة ليست سهلة، لكنها – من واقع الأوراق – تميل إلى نعم.
لم يكن الفشل عسكريًا؛ فعبور القناة كان إنجازًا بطوليًا. لكنه كان سياسيًا واستراتيجيًا.. في إدارة ما بعد الحرب. السادات لم يصبر على نتائج أكتوبر، بل قفز فوقها.. نحو واشنطن، قبل أن تكتمل ثمارها.
وبدلًا من أن تُوظف الحرب، لإعادة صياغة ميزان القوى العربي، تحولت إلى مدخل.. للخروج من المعركة كلها، وترك الميدان.
المعاهدة: فك ارتباط مع العدو الصهيوني.. أم فك مصر عن العرب؟
لقد قدّم السادات لإسرائيل، ما لم تكن تحلم به: إخراج مصر من معادلة الصراع. وهي القوة العربية الوحيدة.. التي خاضت كل حروب فلسطين؛ منذ 1948 حتى 1973. ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، تُمنح إسرائيل فرصة.. لبناء جبهة استراتيجية آمنة في الجنوب، مقابل وعود أمريكية، وابتسامات باردة من بيجن، وكلمات رنانة عن «سلام الشجعان».
لكن هذا السلام – في مضمونه العميق – لم يكن سوى «سلام الانسحاب المصري من دوره التاريخي»، وترك الساحة مفتوحة.. لقوة إقليمية كانت تحلم – منذ تأسيسها عام 1948 – بأن تُصبح القطب الأوحد في المنطقة.
ما بعد المعاهدة: إسرائيل تبدأ مشروعها الكبير
ما الذي حدث بعد كامب ديفيد؟
خرجت مصر، وبدأت إسرائيل تتحرك بلا كوابح:
غزت بيروت عام 1982، وحاصرت عاصمة عربية لأول مرة.
دعمت إنشاء تنظيمات طائفية، تمزق النسيج العربي.. من العراق إلى لبنان.
استغلت انهيار الاتحاد السوفيتي، لتبني علاقات استراتيجية.. مع أوروبا الشرقية والقوقاز.
تحالفت مع واشنطن بشكل كامل، وفرضت نفسها كقوة.. لا يُمكن تجاوزها في أي ملف عربي.
كل هذا حدث، بينما كانت مصر تُقدَّم.. كـ«نموذج للسلام»، في وقت كانت فيه إسرائيل.. تعيد هندسة المنطقة سياسيًا وأمنيًا، وتحوّل القضية الفلسطينية.. إلى مسألة إدارية في رام الله وغزة، بعد أن كانت قضية العرب الأولى.
هل كانت هناك بدائل أمام السادات؟
هذا هو السؤال الذي يُطرح كثيرًا. وهنا يجب أن نُفرق بين خيار الحرب وخيار الردع.
لم يكن مطلوبًا من مصر.. أن تُكمل الحرب، بل أن تُكمل التفاوض.. من موقع قوة جماعية، لا من منطلق فردي.
كان يمكن – بعد أكتوبر – أن تُعقد قمة عربية شاملة، تُبلور موقفًا موحدًا.
كان يمكن أن تُشارك سوريا، والجزائر، والعراق.. في صياغة تفاوض عربي شامل، لا أن يُقصَى الجميع، وتُفرغ الساحة.
لكن السادات أراد أن يدخل التاريخ وحده، فخرجت مصر من الجغرافيا المشتركة.
واليوم… تُحصد النتائج
ما نراه الآن، ليس إلا ثمرة مباشرة للفراغ.. الذي تركته مصر:
إسرائيل أصبحت قوة شبه مهيمنة، لا تُسأل عما تفعل، ولا تُحاسب على ما ترتكب.
القضية الفلسطينية فُكِّكت إلى.. ملفات أمنية واقتصادية.
إيران تمددت في الخليج والشام واليمن، في ظل غياب الدور العربي الجامع.
مصر نفسها – برغم محاولات الاستعادة – ظلت لعقود.. رهينة التزامات كامب ديفيد، لا تستطيع إعادة بناء قوتها الاستراتيجية.. بلا تحفظات خارجية.
كلمة أخيرة: هل السلام من غير توازن… سلام؟
ربما آن الأوان.. لإعادة قراءة ما جرى في كامب ديفيد؛ لا بنظرة عاطفية، ولا بتقديس الأفراد، بل من منظور المصالح القومية.
فالمعاهدة التي وُقعت باسم «السلام»، أدت – في حقيقتها – إلى سحب السلاح من يد مصر، ومنح الغلبة الكاملة لإسرائيل؛ ليس فقط عسكريًا، بل سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.
لقد أراد السادات أن يدخل التاريخ من بوابة نوبل، لكنه ترك خلفه فراغًا.. ملأته إسرائيل، بمشروع الهيمنة الكامل.
ومصر – لكي تستعيد دورها – لا بد أن تعود إلى معادلة التوازن.
فلا سلام بدون قوة،
ولا أمن بدون ردع،
ولا قيادة بدون موقف مستقل.
ويبقى سؤال أخطر وأهم للمقالة القادمة.
* قيادي في حزب العمال البريطاني.