Times of Egypt

معارضة الأفكار المادية ونظرية داروين: قراءة داروين بالعربية 1860 – 1950.. كتاب مثير «2»

M.Adam
محمد أبو الغار 

محمد أبوالغار

بدأت معارضة الأفكار الداروينية.. بترجمة كتب من الفارسية، أشرف على طباعتها في بيروت الشيخ محمد عبده.. بعنوان «فوضى النظريات المادية، وإثبات أن الدين هو أصل الحضارة، وأن الإلحاد هو مصدر انهيار الحضارة». ثم صدر بعنوان مختصر «الرد على الدهريين». وكان عبده تلميذ المحرض السياسي والمفوه والخطيب الديني.. جمال الدين الأفغاني.

يقول الباحث، إنه لم يقارن أحد بين أفكار شميل المادية والداروينية وبين أفكار وكتابات الأفغاني – وخاصة الأولى التي كتبها بالأردو في الهند – ويعتقد أن هناك تقارباً كثيراً في الأفكار.

ولكن الأفغاني كتب بصراحة.. أنه لا يؤمن بهذه النظرية، ولا الأفكار التي بُنيت عليها.. وأنه يؤمن أن الدين هو المحرك الأول للحضارة.. كما قال ابن خلدون. أما شميل، فكتب عكس ذلك تماماً. ثم قال الأفغاني إن نظرية داروين مبنية على أفكار أبو العلاء المعري، وفلسفته عن التطور، وأن شبلي شميل قد أخذ نظرية داروين إلى أبعد مما يجب، وقد أيد الأفغاني عدداً من المفكرين المسيحيين والمسلمين.. المعارضين للنظرية.

وقام شميل بالرد عليهم، بأن قوة الطبيعة والعقل والعلم يجب احترامهما. وبعد إنشاء جامعة القاهرة بعامين، طالب شميل بإلغاء تدريس العلوم الإنسانية والقانون، واستبدالها بالعلوم الطبيعية والكيمياء والطبيعة والأحياء. أفكار شميل الثورية.. لم تنتشر في العالم العربي، وبعد وفاته عاد إسماعيل مظهر إلى كتاباته، ليعيد نشرها وشرحها.

صحوة الشرق الأقصى

عند بدء تقدم اليابان، كتب المصريون أنهم خرجوا من العصور السوداء، وحين هزمت اليابان روسيا في حرب 1905، كتب سلامة موسى يعبر عن سعادة الشعب المصري، وتشجيعه لليابان، لأن الشرق انتصر على أوروبا. وفي ذهن المصريين، أن هزيمة دولة أوروبية هي هزيمة لبريطانيا.. التي تحتل مصر. ونشرت «المقتطف» تفاصيل الحرب، وكذلك مشاعر المصريين. وراقب صعود اليابان باهتمام شديد.. زعماء مصر الصاعدين، وأولهم مصطفى كامل.. الذي نشر عدة مقالات في صحيفة اللواء، عن صعود اليابان، وكتابه «النجم الصاعد» الذي نشره عام 1904 عن اليابان. 

وكتب لطفي السيد مشجعاً روح اليابانيين.. الذين صعدوا، لأنهم عرفوا كيف صعدت الحضارة الغربية، وكتب في «المقتطف».. أن من أسباب صعود اليابان، هو انفتاحهم على التعليم والبحث العلمي.. في مقالات كثيرة. وكتبوا أن اليابان ترسل أبناءها لدراسة العلوم المتقدمة، ولا يذهبون لتعلم الرقص. 

ونشرت «المقتطف»..  أن اليابان قررت فصل الدين عن الدنيا والتعليم، وأنهم في «المقتطف» يتبعون هذا المبدأ. وأن قرار اليابان بأن وجود دين للدولة.. أمر يعيق التقدم، وأن تقدم الغرب ليس له علاقة بالدين المسيحي. وعندما كتب محمد فريد وجدي كتابه «الإسلام والحضارة» عام 1899، عارضت «المقتطف» الفكرة، وقالت إنه يجب فصل الأديان عن العلم. ولم يعجب بعض قراء المقتطف بذلك، وأرسلوا خطابات للمجلة ترفض هذا الرأي.

وتلا هذه الفترة بعض علماء المسلمين – في الشام ومصر – وعلى رأسهم الجسر، الذي كتب في العلوم الطبية والتطور، وإن لم يذكر داروين أو سبنسر أو شميل.. في كتاباته التي لقيت ترحيباً، واستمرت «المقتطف» كمجلة.. ترحب وتشجع وتشرح أفكار داروين.

وتحدث الجسر.. مذكراً أن الله هو الذي خلق الكون، ومن غيره يخلق المحيطات والجبال والصحراء والمعادن والنباتات، وشرح تكوين الخلية المعقد.. بالميكروسكوب، وتحدث عن العين.. وكيف هي عضو شديد التعقيد من جسم الإنسان. تحدث الجسر – أيضا -عن تفسير القرآن لنظرية داروين.. قائلاً: إنه في المستقبل، إذا ثبت صحتها.. فلا مانع من قبول المسلم بها، بشرط إيمانه بأن الله هو خالق الأرض وما عليها. وقال الجسر إنه مؤمن بأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ولكن قال: ما هو طول اليوم في ذلك الوقت؟ لا أحد يعرف.

داروين والمفتي

في صيف 1913 – في مدينة برايتون الإنجليزية – التقى الرحالة وعالم الأخلاقيات والناشط السياسي والمدافع عن مصر ضد الاحتلال بلنت – مع الفيلسوف البريطاني سبنسر، بحضور مفتي مصر الشيخ محمد عبده.. الذي كان يكنّ إعجاباً وحباً كبيراً للفيلسوف سبنسر، وكان عبده طلب من بلنت أن يقدمه لسبنسر، الذي كان يكتب عن عظمة أفكاره في التعليم والثقافة والأخلاقيات والعلوم الطبيعية، وترجم له عن الفرنسية.. أحد كتبه. وتحدث سبنسر – في اللقاء – عن رأيه في المشاكل المتوقعة في أوروبا، وأن الحرب – التي كانت تشنها بريطانيا في جنوب إفريقيا – هي كارثة إنسانية. وسأل سبنسر محمد عبده هل صحيح أن الشرق يتطور على نفس خطوات الغرب؟ فأجاب عبده: نحن نتعلم الشر من الغرب، وليس الخير. ولكن الأفكار المتنورة متساوية بين الشرق والغرب. وسأل سبنسر عبده: أنتم تقولون عن الإله.. الله، ونحن نقول الرب؟ وأجاب عبده بأن: الله هو الإله، وهو ليس كائناً مثل الإنسان. ثم أضاف عبده: أعرف أنك لا تؤمن بالإله. وأثناء العودة في القطار، قال محمد عبده لبلنت.. أن: الله يعلم كل شيء، وقد يكون راضياً عنك اليوم، وغاضباً غداً.. بسبب أفعالك. وأن الله دائم ومستمر. ونشر الشيخ محمد رشيد رضا – في عام 1930 – معظم أعمال محمد عبد،ه لكنه حذف بعض الأشياء في حديث محمد عبده مع سبنسر (الفيلسوف البريطاني).

الإسلام والحداثة

يعتبر الشيخ محمد عبده هو أحد رواد الحداثة – من شيوخ الأزهر ومن المصلحين – في تفسير علوم الدين، وكان براجماتياً في التفكير، وكان فكر محمد عبده متجهاً – أساساً – إلى تحديث الأمة الإسلامية. وللوصول إلى ذلك، كان مصراً على التجديد. وكان يريد إدخال العلم الحديث.. في منهج تدريس شيوخ الأزهر، ولم يتهم داروين بالكفر والإلحاد.. عكس الأفغاني؛ الذي أعجب به في المرحلة الهندية من حياته، ثم هاجمه بشدة في المرحلة التالية.

وقد شجع الأفغاني محمد عبده.. على استخدام العقل، لابتكار أشياء جديدة، واعتبر أنها  كلها – من فضل الله.

وهناك فصل كامل عن الاستشراق والإسلام، ودور محمد عبده في تحديث التعليم. يتحدث الكتاب بالتفصيل عن علاقة محمد عبده – المتوترة – بعلماء الأزهر، وعلاقته باللورد كرومر. كما يتحدث الكتاب عن معركة محمد عبده مع المفكر فرح أنطون.. حول الاشتراكية والماركسية، وعلاقتها بنظرية داروين.

يحكي الكتاب عن ظهور الاشتراكية في مصر، على يد مجموعات مختلفة، ويتحدث عن سلامة موسى.. الذي رأس تحرير مجلة «الهلال» لفترة.. زاد فيها توزيعها، ثم أسس «المجلة الجديدة» عام 1929، التي نشرت أول عمل لنجيب محفوظ. واهتم موسى بنشر مقالات علمية وكُتب.. عن التطور، ثم انتقل إلى شرح نظرية داروين للقراء، وتأثير التطور على الحياة الاجتماعية والثقافية. وتحدث عن مساواة الجنسين، وكذلك الاشتراكية. واعتبر سلامة موسى.. أن كمال أتاتورك أخذ بكل أنواع التقدم الأوروبي، وهو المثال الناجح الذي يمكن أن نتبعه. وعارض موسى المثقفين المصريين.. الذين عادوا الغرب والفكر الغربي، بدعوى معاداة الاستعمار. 

آمن سلامة موسى بالفرعونية، واهتم بدراسة المصريات، ولكنه – في الناحية الاقتصادية – كان يؤمن ويشجع الاقتصاد الوطني.. على هدى غاندي في الهند، وشرح خطورة سيطرة رأس المال الأجنبي على الاقتصاد المصري، ونادى بمقاطعة البضائع الإنجليزية.

لم يكن سلامة موسى يؤمن بالثورة، وكان يؤمن بالتحول التدريجي، والتقدم إلى الأمام.. بخطوات، وليس بثورات.

ترجمة داروين للعربية

أول ترجمة لكتاب داروين.. ظهرت عام 1918، بعنوان «أصل الأنواع والنشوء بالانتخاب الطبيعي»، وقد أضافت الترجمة لإسم الكتاب كلمة «النشوء».. غير الموجودة في الأصل. والعنوان الجانبي «حفظ الصنوف الغالبة في التناحر.. على البقاء». قبل ذلك نشرت فقط أجزاء من الكتاب – مترجمة – في المجلات مثل المقتطف. ظهرت بعض المشاكل في الترجمة للعربية، بسبب وجود كلمات علمية ليس لها نظير في العربية، فترجمت إلى كلمات لا تعطي المعنى الحقيقي. وكان إسماعيل مظهر – المترجم – واعياً بهذه المشكلة، وقام بتعريف عدد كبير من المصطلحات العلمية.. قبل وفاته عام 1962.

إسماعيل مظهر يعرفه القليل الآن، ولكنه كان نجماً هاماً في الثقافة المصرية.. في النصف الأول من القرن العشرين. تخرج في المدرسة الخديوية، وأجاد اللغة العربية على يد الشيخ المرصفي في الأزهر. وكان يجيد اللغات الأجنبية، وكتب مقدمة ترجمة كتاب داروين بعد نهاية الثانوية عام 1911، ولفت نظره كتاب الفيلسوف الألماني بوشنر «فلسفة النشوء والارتقاء»، ولفت نظره كتاب شبلي شميل، وتعمق في الفلسفة اليونانية القديمة، ثم الفلسفة الألمانية، وقرأ أبا العلاء المعري، وظهرت ترجمة مظهر في بدايات ثورة 1919، وكتب عنها في «المقتطف»، وأصبح مظهر موسوعياً كبيراً. وفي عام 1928 نشر الطبعة الثانية من داروين بالعربية، ومع انتشار الحوار العنيف حول كتاب داروين، كتب مظهر مقالة دافع فيها عن حرية الفكر، وأنها ضرورية للنهضة. وطالب بأن يكون التعليم والقضاء.. بعيداً عن الدين، ودافع عن طه حسين.. حين حاكمه البرلمان على كتابة الشعر الجاهلي.

وفي نهاية الأربعينيات أغلقت الحكومة صحيفته، وكانت تنظر إليه بقلق. وبعد حركة الضباط الأحرار عام 1952، كان موقفه محايداً حتى 1956، حين أيد النظام بقوة عند تأميم قناة السويس، واستمر حتى وفاته، وبذا رحل أحد أهم شارحي ومؤيدي نظرية داروين، وكل أنواع التفكير العلمي.

وكتب المقالة الشهيرة.. التي ادعى فيها أن تأخر الشرق، سببه تعلقهم الشديد بالدين في كل شيء في حياتهم، وعلى أثرها حدث هجوم ضخم على إسماعيل مظهر، بل واتهمه البعض بالكفر. ويقال إنه شجع علي عبد الرازق على الانتهاء من كتابة «الإسلام وأصول الحكم»، الذي نشر بعد عام واحد من المقالة.

وفي ختام الكتاب، يشرح المؤلف حادثة الحكم بطلاق نصر حامد أبو زيد من زوجته، على أساس أنها امتداد لهذا الخلاف، الذي وصل إلى تسعينيات القرن العشرين.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة