د. نيفين مسعد
يوم الثلاثاء 9 سبتمبر الحالي، قامت المقاتلات الإسرائيلية بقصف مقر اجتماع قيادات حركة حماس في الدوحة.. بينما هم يتباحثون في المقترح الأمريكي الأخير بخصوص غزة. وبهذا العدوان الصريح، تكون إسرائيل قد انتقلَت من عرقلة عملية التفاوض.. إلى محاولة اغتيال المفاوضين أنفسهم. ومن توريط الحليف الأمريكي.. في تنفيذ المخططات الجهنمية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى إحراج الوسيط القطري – الذي عمل مع الوسيط المصري يداً بيد – على مدى ما يقترب من العامين. ومع أن إسرائيل ظلت تتفنن في اختراع المبررات اللامعقولة.. التي تُمكِّنها من وضع العِصيِّ في دواليب كل محاولات وقف الحرب، إلا أن تبريرها لمحاولة اغتيال قادة «حماس».. كان هو الأعجب على الإطلاق، فلأول مرة يتم تسويق اغتيال المتفاوضين حول الحل السياسي.. باعتباره مقدمة للحل السياسي!
ومع أنه ما زال من المبكر تحليل الآثار العميقة للعدوان الإسرائيلي على السيادة القطرية، إلا أنه من المؤكد.. أن أثره سيتجاوز حدود دولة قطر، وسيؤدي إلى مراجعة الحسابات والسياسات الخليجية وربما حتى العربية؛ فيما يخص الاتفاقيات الإبراهيمية، والرهان على الدعم الأمريكي، ومهددات الأمن الإقليمي.
وبينما كانت إسرائيل تجهز لعدوانها على دولة قطر – ضاربةً عرض الحائط.. كعادتها – بقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، كانت تجري على أرض مصر.. محاولة لتجنيب الشرق الأوسط المزيد من الصراعات والحروب. هذه المحاولة تعود بداياتها إلى ما قبل العدوان الإسرائيلي على إيران.. من خلال الاتصالات الكثيفة المتبادلة بين وزيرَي الخارجية لكل من مصر وإيران. إلا أن العمل تسارع بعد الحرب، وبالذات مع تهديد دول الترويكا (الأوروبية).. بتفعيل آلية الزناد، ما لم يتم التوصُّل إلى تفاهم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في غضون شهر.. اعتباراً من يوم 28 أغسطس 2025.
وأخيراً – وقبل انقضاء هذه المهلة بـ19 يوماً – جرى توقيع الاتفاق في القاهرة.. بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكمواطنة مصرية، شعرت بالاعتزاز الشديد بانخراط بلدي في محاولة إيجاد حل سلمي للبرنامج النووي الإيراني، وبتصرُّف مصر.. وفق مبادئها المستقرة والمعلنة، تجاه إخلاء منطقة الشرق الأوسط من كل أسلحة الدمار الشامل؛ كمدخل أساسي من مداخل تحقيق الاستقرار الإقليمي.
ومن دون المبالغة في التوقعات ح للأسباب التي سوف أوردها حالاً – فإن صورة الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهو يتوسط السيد رافائيل جروسي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والسيد عباس عراقچي وزير الخارجية الإيراني، والدكتور بدر عبد العاطي وزير الخارجية المصري – هذه الصورة أعادت إلى ذهني الصورة الشهيرة.. بعد توقيع اتفاق يونيو 2015 بين إيران ومجموعة (5+1)؛ وهو الاتفاق الذي كان يمكن الاستفادة منه، والبناء عليه.. لولا انسحاب ترامب منه في ولايته الأولى.
اختارت إيران.. أن تقوم مصر بدور الوسيط بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية – كجزء من التطور الملحوظ في العلاقات الثنائية بين البلدين في عهد الرئيس مسعود بزشكيان، ومن منطلق إدراك إيران التام.. للأهمية الإستراتيجية لمصر؛ كركيزة أساسية للاستقرار والتوازن في المنطقة – ولأن إيران نفسها تطرح فكرة إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، وآخر طروحاتها شبه الرسمية في هذا الخصوص.. مبادرة بعنوان «منارة» لوزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف، حول تعاون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. في مجال إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية. ويُذكرنا اختيار إيران لمصر – أيضاً – باتجاه إيران للصين.. من أجل وضع اللمسات الأخيرة على استئناف العلاقات بينها وبين السعودية.. باتفاق مارس 2023. لكن مع الإقرار بأهمية هذا الإنجاز، إلا أنه يواجه مجموعة من التحديات الأساسية؛ أبرزها كيفية إدارة العلاقة مع الترويكا الأوروبية، وما إذا كان التزام إيران بإتاحة منشآتها النووية أمام تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، سوف يسبق تعليق آلية الزناد.. وفق التفسير الأوروبي، أم يتلو هذا التعليق.. وفق التفسير الإيراني.
ثم أن التفتيش.. ليس سوى جزء من كل، فهناك أمور أخرى تحتاج لإعادة التفاهم عليها.. بين إيران والترويكا، وهذا يثير التساؤل حول المدى الزمني المطلوب للتوصل لاتفاق جديد، بدلاً من اتفاق عام 2015، فهذا المدى الزمني يحتاج أن يكون كافياً.. بما يسمح بمفاوضات جادة، من دون أن يكون باباً لاستنزاف الوقت دون طائل.
كذلك يوجد تحدٍّ خاصٍ بإسرائيل؛ فأن تتوصَّل إيران مع الترويكا لاتفاق جديد، فإن هذا لا يمثل بحال رادعاً لإسرائيل.. التي كانت – وما زالت – ضد أي تسوية سلمية لموضوع البرنامج النووي الإيراني. كما أن أهداف إسرائيل في إيران تتجاوز تحييد خطر البرنامج النووي الإيراني، إلى تغيير نظام الحكم نفسه.. كما هو واضح ومعلن.
وإضافة إلى ما سبق، يوجد التحدي الخاص بالخلاف الإيراني الداخلي، وهو خلاف حقيقي.. وليس شكلياً، ولا من قبيل توزيع الأدوار؛ فهناك بدايةً الخلاف ما بين الرافضين للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.. من المتشبثين بقانون مجلس الشورى الإيراني.. الذي قضى بوقف التعاون مع الوكالة، وبين مؤيدي هذا التعاون.. لارتباطه الوثيق بمنع تعرض إيران لمزيد من العقوبات الدولية. ثم هناك خلاف آخر.. حول تفسير ما الذي يحافظ – أو لا يحافظ – على السيادة الوطنية الإيرانية؛ ضمن بنود اتفاق القاهرة.. أي ما يتعلق بشروط وضوابط عمليات تفتيش الوكالة.
لكن التحدي الأخير بالذات.. هو الأقل خطورة، لأنه من المفهوم أن عراقجي – ورغم كل ما يتعرَّض له من هجوم شرس من جانب التيار المحافظ – فإنه ما كان ليأتي للقاهرة.. ومعه مسودة للاتفاق مع الوكالة، دون الحصول على ضوء أخضر من المرشد، وهذا يحد من قدرة المحافظين على عرقلة السير في طريق التفاوض.
الخلاصة، أن هناك إنجازاً تحقق بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية – قامت مصر بدور مقدَّر في التوصل إليه – لكنه إنجاز محفوف بالمخاطر، ويحتاج إلى الحذر في مواجهتها، كما أنه إنجاز يحتاج للاشتغال على ضم الولايات المتحدة إليه؛ هذا إن أرادت إدارة ترامب الحفاظ على بقايا نفوذها في الشرق الأوسط.
نقلاً عن «الأهرام»