سمير مرقص
في الذكرى السادسة والعشرين لرحيل المفكر والمؤرخ والقانوني واللاهوتي الدكتور وليم سليمان قلادة (يونيو 1924 ــ 1999)، شرعنا – في مقال الأسبوع الماضي – في تقديم دراسة غير منشورة له، كتبها عقب حرب أكتوبر 1973، بعنوان: «مصر التحدي الحضاري للفكرة الصهيونية»؛ يبلور فيها رؤيته حول سمات الجغرافيا الطبيعية والسياسية والبشرية المصرية.
أسَّس «قلادة» رؤيته، من خلال تتبُّع متأنٍّ للتاريخ المصري، استخلص منه أن هناك «معطيات طبيعية وبشرية وتنظيمية».. تشكل مقومات حضارية مميزة لمصر؛ بعضها طبيعي، وبعضها الآخر هو ثمرة التفاعل بين البشر.. من أجل بناء جماعة وطنية لهم، وحياة مادية تعود بالخير على الجميع، تؤسس لبناء حياة مشتركة بينهم، ومن ثم توفر قدرة وطنية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.. المهددة لهذا النموذج الحضاري، خاصة تلك النماذج – النقيض – التي تروج لأفكار استعلائية، وعنصرية، وإقصائية، وتدميرية. وفي هذا المقام، يرصد «قلادة» في دراسته.. أربعة مقومات يتسم بها النموذج الحضاري المصري (تمثل نقيضاً ــ تحديداً ــ للفكرة الصهيونية)، تتعلق بالنظرة إلى كل من: أولاً: الأرض، وثانياً: اللغة، وثالثاً: الشعب، ورابعاً: النضال الوطني المشترك.
أولاً: الأرض؛ وعنها يقول «قلادة»: «إن البذور الأولى للوعي والتنظيم المصريين، تتمثل أساساً في الأرض.. ككيان جغرافي متميز، تحوَّل لدى القاطنين عليه (منذ مهد الحضارة).. إلى مرجع للانتماء الأول والأصيل للبشر الذين يحيون عليها. ولقد استمر الارتباط بين جغرافية مصر وتاريخها عبر العصور التالية». ويؤصِّل «قلادة»، في نص لاحق: «المواطنة المصرية: حركة المحكومين نحو المساواة والمشاركة». ما طرحه مبكراً حول الأرض بالنسبة للمصريين بأن: «انتماء الشعب إلى أرض بذاتها، يمثل تقدماً بالنسبة للانتماء إلى أسرة أو قبيلة، لأنه تتحقق في الانتماء إلى الأرض.. وحدة الفكر والمصلحة والرؤية المشتركة إلى المستقبل»، ويلفت «قلادة» نظرنا في ورقته إلى أن صلة الشعب بالأرض.. سابقة على أي أيديولوجيا أو عقيدة أو دين. ومن ثم فإن الانتماء لمصر.. سنده الأرض: الموحدة-النيلية؛ بما تمنحه من عطايا لجميع المصريين، على اختلافهم، دون تمييز.
ثانياً: اللغة؛ فقد كان لوحدة اللسان في المجال العام.. أثرها على اندماج الجميع فيه، دون أن يتناقض ذلك مع التمسك بأي لغة فرعية. ولم تحُل الوحدة اللسانية في المجال العام.. دون حفظ «التراثات» المتعاقبة: المصرية القديمة، والقبطية المسيحية، (واليونانية) المتراكمة لتاريخ مصر.. حسبما كُتبت به، وأن تكون قابلة للتعريب والترجمة لأي لغة؛ باعتبارها إرثاً حضارياً لكل المصريين من جهة أولى. وحقاً للانتفاع به من قبَل الآخرين من جهة ثانية. ودليلاً على القدرة الانفتاحية على الحضارات الأخرى من جهة ثالثة.
ثالثاً: الشعب؛ يقول «قلادة»: «الانتماء إلى الشعب المصري ــ كالانتماء إلى أرض مصر ــ لم يكن على أساس ديني. وحين وفدت إلى مصر الهجرات العربية المتلاحقة، لم تنعزل عن كتلة الشعب الأصلي، بل اندمجت فيه اندماجاً تاماً، وكان عامل الذوبان هنا.. هو العمل في الأرض». ويميِّز وليم هنا بين الحكام الوافدين، وبين الذين انخرطوا قاعدياً مع المصريين من المحكومين (منذ البطالمة والرومان فالعرب). إذن، كان «عامل الذوبان» – حسب «قلادة» – هو الطريق للانتساب إلى مصر، فلقد كان لمصر «قوة امتصاص نادرة وحيوية، تبتلع بها وتهضم معظم الوافدين حتى تصهرهم في الجسم الكبير». لذا لم تصبح مصر يوماً تجمعاً لعناصر إثنية.. منبتة الصلة عن بعضها البعض، بل مجتمعا بشرياً تعددياً: إنسانياً وشعبياً ومواطنياً.
رابعاً: النضال الوطني المشترك؛ فالاستقلال كان دوماً ــ في المخيال الوطني ــ الأمل الذي سعى له المصريون، وكان موحِّداً لهم منذ البطالمة إلى الاحتلال البريطاني، مروراً بالرومان الوثنيين والمسيحيين (وكان أحد تجلياته الاستقلال الكنسي) والبيزنطيين، والطولونيين، والإخشيديين، والفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين. وتشير القراءة التاريخية الشاملة والكلية (وليست المجزأة) إلى أن الاستقلال كان هو الجامع والدامج بين المصريين. فلقد كان هذا التاريخ، حسب «قلادة»: «مسيرة ــ نضالية شعبية ــ نحو هدف بذاته ــ هو الاستقلال». وحتى بعد التخلص من الاحتلال البريطاني، كان هم المصريين في الدولة الحديثة، دوماً، هو كيف يمكن تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي.
في ضوء ما سبق، يخلص «قلادة» إلى أن النموذج الحضاري المصري – بمقوماته الأربعة – يمثل تحدياً من جانب، كذلك نقيضاً من جانب آخر للفكرة الصهيونية (التي بالرغم من علمانيتها، إلا أنها تقوم بصياغة مُعلمَنة للنصوص التوراتية، كي يتم توظيفها سياسياً.. بحسب عبد الوهاب المسيري في موسوعته اليهود واليهودية والصهيونية) التي تطرح أفكاراً، منذ نهاية القرن التاسع عشر وإلى يومنا، حول قداسة الشعب اليهودي واصطفائه الإلهي، وأنه شعب مختار وموعود بما يُعرف في الأدبيات بـ «أرض الميعاد». كما تفترض الصهيونية – من خلال دعاة الصهيونية الإثنية الدينية – أن اليهودية دين قومي أو قومية دينية. هكذا تصبغ القداسة على الشعب اليهودي، الذي يستحق بالتالي أرضاً مقدسة. ما يعني «استحالة التعايش بين اليهود وغيرهم.. في مجتمع واحد»، ذلك لأنهم مختارون/مصطفون إلهياً، ونظراً للربط الإثني الديني والقومي واللغوي بين الأرض والشعب؛ فلا مجال للتعددية. ومن ثم يصير المجتمع ودولته بمثابة: «معزل مادي وثقافي». ولا مناص في هذه الحالة.. من الجور على حقوق الآخرين؛ بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة.
يجيب «قلادة» – بعد أن بين التباين بين النموذج الحضاري المصري والفكرة الصهيونية – على السؤال الذي طرحه في بداية ورقته – كما ذكرنا في مستهل مقال الأسبوع الماضي – هل للفكرة الصهيونية فرصة للتعميم؟ بقوله: «لو أن هذه الفكرة قد وجدت طريقها للتطبيق.. في بلد يعيش فيها أبناء أكثر من جنس، يتكلمون بأكثر من لغة، ويعتنقون أكثر من دين أو أيديولوجية، فإن صراعا عنيفا سوف ينطلق يقينا». وفي النهاية نشير إلى ريادة «قلادة» في الكتابة المبكرة حول الصهيونية (راجع الطليعة الاهرامية ديسمبر 1966 وهو نفس العام الذي ألقى فيه البابا شنودة محاضرته الأولى بنقابة الصحفيين: إسرائيل في نظر المسيحية).
وبعد، استحق وليم سليمان قلادة أن يوصف ــ بإجماع ــ «بمدرسة الوطنية المصرية»؛ لبحثه الدؤوب على التنقيب المستمر عن مقومات «المصرية»؛ ليس من منظور قومي ضيق، بل من منظور حضاري شامل. فتحية لروحه.
نقلاً عن «الأهرام»