Times of Egypt

مدينة الشمس 

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد 

هذا هو المقال الحادي والعشرون – في سلسلة مقالات «الشخصية القبطية في الأدب المصري» – ومقال اليوم هو عن رواية «مدينة الشمس».. الصادرة عن دار العين في عام 2020، للكاتب الشاب مينا ناجي. تدور أحداث الرواية حول صديقين؛ أحدهما مسيحي ويرمز له الكاتب بحرف (م)، والآخر مسلم ويرمز له الكاتب برمز(ح). ولا تظهر الهوية الدينية لكل من (م) و(ح).. إلا بشكل عرَضي في ثنايا الأحداث؛ كأن يوصي الأب ابنه (م).. بأن يذهب إلى الكنيسة، ويمشي مع ربنا. لكن الابن لا يستمع لنصيحة والده.. إلا في آخر الرواية، عندما يقع في مأزق كبير.. فيدخل الكنيسة، ويركع على ركبتيه أمام يسوع المصلوب، ويبكي. أو عندما يستعرض (م) تاريخ حياته كابن مع أختين، علماني في أسرة كاثوليكية من الطبقة الوسطى. أو كأن يتلقى (م) عرضا من سارة المسلمة.. ليهرب معها، فلا يستجيب.. لأن الهروب مع بنت من غير دينه، وفي ظروف مثل ظروفه، ليس بالأمر السديد. بينما هو يعرض على ميريت – الكاثوليكية مثله – الزواج، فترد عليه بأنه لطيف.. لكنها لا تفكر في الزواج. 

أما (ح) – الذي نعرف أن له أخاً يُدعى عمر، يعمل في الخليج – فإنه يتنكر في شخصية مأذون.. ليعقد قران صديقه (إتش)، ويتنمر مستظرفاً على (م)؛ فيقول له «يا ابني النصرانية دين ضال ومحرف، إني أعظك أن تكون من الجاهلين». ويستطرد «انت هتعلمني شغلي يا نصراني يا كافر». 

وينبهنا مينا إلى أن الجميع يتنمَّر على الجميع؛ ومن ذلك وصف (م) الفتاة القبطية المتزمتة.. بأنها «مزيته». يشترك الصديقان (م) و(ح) في شقة واحدة.. بحي مصر الجديدة؛ حيث تدور أحداث الرواية بالكامل. في الشقة غرفتان للنوم، وغرفة لمكتب بروحين – إن جاز التعبير – أو بوظيفتين: دار لنشر الأعمال الأدبية على قد الحال، ومكتب للتحريات الخاصة. 

وتجسد حياة هذين الصديقين.. حياة شريحة من شباب الجيل Z – لست متأكدة بالضبط من حجمها في المجتمع المصري، لكن سلوكها مقلق جدا – هذه الشريحة الشبابية ..التي تنتمي للطبقة الوسطى كمثل (م) و(ح)، لها لغتها الخاصة.. التي يحتاج أبناء جيلي إلى قراءتها مرتين، وربما أكثر، حتى يفهموا معناها؛ كما في قول مي.. إحدى شخصيات الرواية، رداً على سؤال من (ح).. حول خطتها لقضاء العيد، إنها ستقضيه «أنكزايتي على بانك أتاك يا حب»؛ أي ستقضيه في قلق، مع نوبات من الخوف أو الهلع. وهي لغة كثيفة الاستخدام للسباب، وأحياناً للسباب الفاحش.. بمناسبة وبدون مناسبة، وللتعبير الخشن جداً عن العلاقات الجنسية، وهذا تطوُّر ملحوظ، عبر عنه أكثر من كاتب من الكتاب الشبان.. الذين سبق أن عرضتُ لأعمالهم الأدبية. 

يتصرف أبناء هذه الشريحة – بدرجة كبيرة من العبثية – على طريقة لا شيء يهم لإحسان عبد القدوس، ففي أحد مواضع الرواية، يضحك إسماعيل.. قائلاً «إحنا كلنا تافهين أصلاً، ويا ريت مصر تبقى كلها أوكاراً هاهاهاها ها». كما أنهم يتعاملون – بعادية مذهلة – مع مسائل من المفترض أنها مسائل كبيرة؛ كتلك المسائل التي تتعلق بالحياة، واحترام الجسد. ومن ذلك استسهال التهديد بالانتحار.. حتى أنه بدا لي – في بعض أجزاء الرواية – وكأنَّ الانتحار ممارسة عبثية، واردة الحدوث جداً، ولو من باب كسر الملل. قالت صديقة (م) – التي تعاني من الاكتئاب الحاد – إن «الواحد زهقان.. عاوز يعمل حاجة جديدة، أو ينتحر!» كما أن ابنتي عم مهند – صديق (م) و(ح) – انتحرتا؛ الأولى بسم الفئران، والثانية بحاجة وعشرين قرص منوم. 

ومع أن مهند معروف بالكذب، لكن يبقى السؤال.. لماذا تتعلق كذبته بالانتحار بالذات؟ أكثر من ذلك، فإن عدوى الانتحار أصابت.. حتى كلب الجيران، فانتحر من الطابق السادس. أما سنا – وهي شخصية أخرى في الرواية – فإنها وللعجب.. أقدمت على فض بكارتها في سن الثالثة عشرة، لأنها رأت «غشاء البكارة شيئاً سخيفاً.. ليس له لزوم». 

وبالطبع يحتل الإنترنت مساحة واسعة من حياة شباب الرواية، ويوفر فرصاً متعددة لبدء العلاقات الحميمة بين الجنسين. أما تطور هذه العلاقة، وفي أي اتجاه يكون التطور.. فإنه أمر محكوم بالظروف، وأيضاً بمدى الخضوع لظاهرة النفاق الاجتماعي. ففي علاقة سنا مع (ح)، تميز الفتاة ما بين استضافتها له في بيتها، وقضائهما معاً وقتاً لطيفاً، وبين رفضها قبول صداقته على الفيسبوك.. لأنها تعتبر أن الفيسبوك «للمقربين مني قوي». 

وفي نقطة النفاق الاجتماعي هذه، أفتح قوسين.. لأقول إنها موجودة في أكثر من موضع في الرواية؛ كانعكاس طبيعي لانتشارها في المجتمع. وهكذا فإن حسين – الشاب الملتحي العامل بمحل الفول والطعمية في منطقة تريومف، والذي يُعلم الجميع بأنه ذاهب لأداء الصلاة، ليثبت أنه متدين – يرفه عن (م) و(ح)، بعد مشاهدتهما لحادث تفجير مدوٍّ أمام المحل، بأن يقودهما إلى إحدى شقق الدعارة.. في منطقة سانت فاتيما. وفي مناسبة أخرى، يقدم لهما صندوقاُ خشبياُ يوجد به «خابور» حشيش. كما أن طالبة الطب التي ضاجعت (م)، طلبت منه أن يدير وجهه.. كي تنتهي من ارتداء ملابسها الداخلية. 

تنتهي قصة (م).. نهاية غريبة؛ حيث يخرج مخموراً ومرتدياً زي رجل خليجي.. من إحدى الحفلات التنكرية، التي نظمها أصدقاؤه المثليون.. بمناسبة عيد الهالوين. ويتوجه (م) إلى محل لبيع الحيوانات الأليفة، ويسيل دم صاحب المحل بضربة.. على رأسه، صارخا «علشان تبقى تموِّتلي قطتين يا ابن ال….». يتم إيداع (م) مصحة نفسية، ومن بعدها يعرف طريق الكنيسة ويركع أمام تمثال المسيح. 

ولا تقل نهاية قصة (ح) غرابة.. عن قصة صاحبه، وإن تكن أكثر درامية.. فقد تناثرت أشلاؤه في تفجير لإحدى الكنائس.. أثناء عملية توريد أغذية لدار أيتام ملحقة بها. يُعلمنا الكاتب بهذا التفجير – دون تفاصيل، وهو على أي حال ليس هو التفجير الوحيد من نوعه في الرواية – أن يموت (ح) المسلم في تفجير كنيسة، فإن هذا يؤشر إلى أن ثمن الإرهاب.. يدفعه جميع المصريين. 

أهمية هذه الرواية – المشبعة بدرجة عالية من السخرية – تنبع من أنها ترصد معالم التشوُّه.. الذي أصاب أبناء الطبقة التي يصفها الكاتب بالوسطى، وإن كنت أعتقد أنهم ينتمون لطبقة خاصة.. لا عليا ولا وسطى. فهذه الفئة من الشباب، استبدلت التسلية والاستهتار وتعاطي المخدرات والجنس الحر والجانك فوود.. بقيم التعليم والوقت والأسرة والزواج والشرف وأكل البيت، التي كانت هي من خصائص الطبقة الوسطى، وعلى حفظ توازن المجتمع.. بفضل الطبقة الوسطى. 

وأعتبر أن من أفضل أجزاء الرواية، ذلك الجزء الذي يتحدث فيه الكاتب – بشكل مبسط وشديد العمق في الوقت نفسه – عن تحول التعليم إلى أداة للفرز الطبقي والسلوكي.. بين الأنواع المختلفة من التعليم؛ بين التعليم الحكومي والتعليم الخاص. وبين أنواع التعليم الخاص نفسه. بل بين لغة التعليم في إطار التعليم الخاص.. وما إذا كانت هي اللغة الإنجليزية أو الفرنسية. وبذلك تحول التعليم من أداة للحراك الاجتماعي.. إلى أداة للتشويه الاجتماعي. 

إن مينا ناجي – من خلال شلة الشباب في روايته – يقدم لنا صورة من صور التطرف الليبرالي.. في فهم معنى الحرية، ولا يفوته أن يشير إلى أن أبطال الرواية.. لهم أهل في الخليج. كما أن مينا ناجي – من خلال التفجيرات الدامية.. المتكررة في أنحاء حي مصر الجديدة – يقدم لنا صورة أخرى.. من صور تطرف الشباب؛ هي صورة التطرف الديني، الرافض لمفهوم الحرية، وللحق في الاختلاف، والمستعد للذهاب إلى حد قتل المختلف عنه.. لو لزم الأمر. مينا ناجي لقد أعلمتنا وأرعبتنا. 

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة