Times of Egypt

محمود حسين كما عرفته: كتاب شديد الأهمية لسمير غريب

M.Adam
محمد أبو الغار 

محمد أبو الغار

إنه لشيء شديد الغرابة أن يغادر مصر – في عام 1966 – اثنان من شباب المثقفين إلى فرنسا، ويسطعان معاً في سماء الثقافة الفرنسية، ويصبحان من النجوم المهمة في باريس، ويصدران عدداً من الكتب المهمة. أحدهما كان رئيس تحرير والآخر مدير تحرير لمجلة اليونسكو. واشتركا في برامج تليفزيونية مهمة، وكتبا دراسات مبهرة عن مصر. بهجت النادي وعادل رفعت.. اللذان جمعتهما صداقة شديدة، وتوحد فكري غريب، جعلهما يكتبان معاً كل هذا الإنتاج.. باسم محمود حسين. الغرابة أن قلة قليلة في مصر اهتمت بهما، ولم تهتم الصحافة ولا دور النشر ولا وزارة الثقافة. كانت بداية المعرفة بهما نشر كتاب «صحوة المصريين في مصر الحديثة» بترجمة من د. محمد مدكور، بعد تغيير العنوان وحذف فصل من الكتاب بموافقة المؤلفين.

وُلد بهجت النادي في عام 1936 في أسرة ريفية متوسطة، وانتقلت العائلة إلى القاهرة ومن السيدة زينب إلى الدقي إلى كلية طب عين شمس.. حتى اعتُقل بسبب انتمائه الماركسي عام 1959، وخرج عام 1964 بعد تعذيب رهيب، وعاد لكلية الطب، ولكنه غادر مصر إلى باريس قبل أن يُنهي الدراسة عام 1966.

أما عادل رفعت فهو من أسرة مصرية برجوازية يهودية من الإسكندرية. غادرت العائلة مصر عام 1956، ولكن عادل تحول إلى الإسلام وبقي في مصر، ودخل كلية الآداب، واعتُقل – في نفس الوقت مع بهجت – بتهمة الماركسية، وقضيا معاً فترة في نفس السجن، وغادر أيضاً إلى باريس عام 1966. تعرَّف بهجت على عادل عام 1955، واستمرت الصداقة حتى الآن وقدما معاً عدداً من الكتب المهمة؛ أولها «الصراع الطبقي في مصر 1945-1970»، وتم إهداء الكتاب إلى مصطفى خميس.. العامل الذي أعدمته الثورة بعد أيام قليلة من قيامها في كفر الدوار.

والكتاب الثاني «العرب في الحاضر».. صدر بعد هزيمة 1967 وحرب 1973، ثم كتاب «حوار غير مألوف» عن الكيان الإسرائيلي، وكتاب «أزمة الإمبريالية والفتح الجنوبي للحرية»، والكتاب الذي أثار ضجة وهو «بعثة بونابارت في مصر».

 وفي السنوات الأخيرة، كتاب عن «دراسة متعمقة للإسلام»، وكتاب «القرآن بين السماء والأرض»، ثم كتاب «ما لم يقله القرآن» و«المسلمون أمام تحدي داعش»، وكتبا رواية واحدة باسم «تحدي الآلهة» وهي مزيج من الواقع والخيال، ولهما كتابان لم يكتملا بعنوان «إسلاميات» والآخر «وتوفي رسول الله». يلخص سمير غريب جميع هذه الكتب في كتابه. 

قام محمود حسين بكتابة سيناريو ثلاثة أفلام تسجيلية هي السفح الجنوبي للحرية والنسر وأبوالهول، وعندما تحدث العالم العربية أو العمر الذهبي للإسلام.

كان ظهورهما معاً في برامج تليفزيونية فرنسية مهمة أمراً ملحوظاً، وفور وصولهما إلى فرنسا أدرك أهميتهما جاك لانج – الذي أصبح وزيراً للثقافة بفرنسا، وكان مقرباً من الرئيس الفرنسي ميتيران – فساعدهما على الحصول على الجنسية الفرنسية، وسكنا مع بعض بضعة سنوات حتى تزوج بهجت وانتقل إلى السكن مع زوجته في شقة منفصلة.

يتحدث سمير غريب بحميمية شديدة عن صديقيه بهجت وعادل – الذي يرجح أنه التقى بهجت أول مرة عام 1988 في مكتب وزير الثقافة فاروق حسني – وعبّر سمير عن اندهاشه أن فاروق حسني لم يسعَ إلى التعرف عليهما، وهما نجمان مهمان في الثقافة الفرنسية والمصرية.. أثناء إقامته الطويلة في باريس.

لفت نظري في الكتاب.. الحديث عن المفكر الإسلامي خالد محمد خالد. يسرد سمير غريب حكاية تفوق الخيال.. عن مقابلة بهجت مع النجم الكبير آنذاك خالد محمد خالد، الذي عرفه المصريون جميعاً حين طالب بالحريات في الميكروفون علانية.. أمام جمال عبد الناصر في لقاء كبير لقوى الشعب. 

تقول رسالة بهجت – التي تُنشر لأول مرة.. رغم أهميتها وغرابتها – كان بهجت يمشي على كوبري قصر النيل عائداً من جريدة الجمهور المصري اليسارية، وكان رئيس تحريرها فتحي الرملي، وكان سعيداً أن يترجم قصة سوفيتية قصيرة.. نشرتها الجريدة على صفحة كاملة، والتفت إلى رجل يسير بجواره، وكان بهجت عمره 16 عاماً، والرجل تخطى الثلاثين، وقال له: لماذا لا تحتمي بالجريدة من المطر؟ فرد بهجت: أرغب في الاحتفاظ بها لأن فيها اسمي، وشرح للرجل حكاية القصة، وأنه طالب في نهاية الثانوية، واستغرب الرجل أنه يقرأ الإنجليزية ويترجم أيضاً، وسأله: أتقرأ شيئاً خارج الدراسة؟ فأجاب: نعم، ربما ألف كتاب.

 ضحك الرجل وقرر أن يسير مع الطالب بهجت، وسأله: هل يقرأ زملاؤك مثلك، فقال: ربما، وسأله: هل قرأت كتاب «من هنا نبدأ»؛ وهو كتاب شهير لخالد محمد خالد أثار ضجة عند صدوره. فأجاب بنعم، وسأله: هل أعجبك الكتاب؟ فقال: نعم، وجاء في وقته. 

وفهم بهجت أن محدثه هو الكاتب، وضحك خالد وأعطاه رقم تليفونه. وقابله بعد أيام في الطريق، وقال له: سألت زملائي ولم يقرأ منهم أحد شيئاً. وأعطاه بطاقة بها عنوانه وقال إنه في انتظاره يوم الجمعة صباحاً. وذهب بهجت لمقابلته في شقته المتواضعة، وكان قد قرأ كتابه «مواطنون لا رعايا»، وتحدثا طويلاً. ويقول بهجت إنه كان فتى ساذجاً، حديث الإيمان بالشيوعية وبالألفاظ الرنانة، حتى جاء ميعاد صلاة الجمعة فدخل ابنه الحجرة قائلاً إن الشيخ سيد سابق في انتظاره، وسأل خالد بهجت: هل تعرفه، فأجاب بهجت: أليس هو الذي أفتى بقتل المخالفين؟! ضحك خالد وقال: أتصدق هذا الكلام؟ 

تعرّف بهجت على إبراهيم فتحي – المثقف الماركسي – وتتلمذ على يديه، وفي نفس الوقت استمرت علاقته مع خالد محمد خالد – الذي يصفه بأنه ليبرالي يتمنى أن يستقر نظام ديمقراطي برلماني – بينما كان إبراهيم فتحي وبهجت يريدان إقامة دكتاتورية البروليتاريا. وفاجأ خالد بهجت بأحاديث في الراديو.. عن دور الإنسان في الحياة، ونشر كتابه الديمقراطية أبداً، وكان يهدف منه وقف زحف الضباط الأحرار نحو الدكتاتورية.

يتحدث بهجت بحب عن خالد وأفكاره العظيمة.. التي لم يستوعبها في ذلك الوقت. وكتب خالد محمد خالد في مذكراته فقرة عن لقائه مع بهجت النادي.. مُلخصاً لقاءهما معاً ومعرفة مكانته العظيمة في باريس مع زميله عادل رفعت.

أعتقد أن بهجت النادي وعادل رفعت (محمود حسين) شخصيات مصرية عظيمة، قدمت إنتاجاً على هيئة عدد من الكتب الهامة، وبرامج تليفزيونية بالفرنسية، وحوارات صحفية، ومجلة اليونسكو الهامة. كل هذا الإنتاج يجب أن يكون متاحاً للقارئ المصري.

والحقيقة أنني أخجل من نفسي، أنني لم أكن أعرف عنهما شيئاً.. قبل صدور كتاب «صحوة المصريين»، وأعتقد أن الحديث والصداقة التي دارت بين خالد محمد خالد وبهجت النادي.. تشير إلى عظمة مصر الليبرالية، في تلاقي الأفكار المتضادة والحوار بينهما بدون عنف وبحب شديد.

تحية لبهجت النادي وعادل رفعت، وكل مثقفي مصر.. من كافة التوجهات، الذين طالبوا بحرية أبنائها، ودافعوا عنها، وحاولوا رفعة شأنها.

قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة