Times of Egypt

محمد صلاح الدين وزير خارجية عظيم فقدته الذاكرة المصرية

M.Adam
محمد أبو الغار 

محمد أبوالغار

د. محمد صلاح الدين.. أبرز السياسيين والدبلوماسيين المصريين، كان وزيراً لخارجية مصر في عامَي 1950-1951، وتفاوض مع وزير خارجية بريطانيا لتحقيق الاستقلال، وقال للنحاس: «لا أمل في التفاوض، فلتقم بإلغاء معاهدة 1936، والكفاح المسلح هو الحل الوحيد»، وقد أخذ النحاس بوجهة نظره. 

وُلد في عام 1902 ورحل عام 1991، وكما قال د. أحمد زكريا الشلق.. إنه من جيل السياسيين المثقفين نتاج ثورة 1919، وقد تفتَّح وعيه وحسه الأدبي على أشعار شوقي وحافظ، وتربى في بيئة طه حسين والعقاد والمازني. وبالرغم من أنه كان وفدياً.. فإنه لم ينخرط في سجلات الحزب، وعاش تجربة اجتماعية وفنية.. في عشق الفن والمسرح والسينما منذ دراسته للدكتوراه في باريس. 

محمد صلاح الدين لم يأخذ حقه التاريخي، لأنه لم يتسارع للزعامة وتعفَّف عن الشهرة والسلطة. وسجلت تاريخه الباحثة نجلاء عبد الجواد في رسالتها للدكتوراه، التي شملت مختلف الوثائق القومية ووثائق وزارة الخارجية البريطانية. تخرَّج صلاح الدين من مدرسة الحقوق، وتزوَّج عام 1930 من السيدة عزيزة هيكل، ابنة عم محمد حسين هيكل، المثقف البارز ورئيس حزب الأحرار الدستوريين. 

سافر في بعثة إلى فرنسا عام 1925 للحصول على الدكتوراه، وولع صلاح الدين بالثقافة الفرنسية فأقبل على المعارض الفنية والمسارح، وكان عنده ولع بالتمثيل منذ صغره، ومثَّل أدواراً في جمعية أنصار التمثيل مع محمود تيمور وزكي طليمات. وعند عودته إلى مصر قام بتشجيع جميع أنواع الفنون، وخاصة المسرح والسينما، وأعاد افتتاح معهد السينما الذي أُغلق عام 1931. بعد أن أقنع النحاس باشا بأهميته. وتم افتتاحه في عام 1944. واقترح أيضاً إنشاء معهد التمثيل، وتم ذلك. 

عندما تولى وزارة الشؤون الاجتماعية تولى الإشراف على معهد السينما ومعهد المسرح، وأنشأ أول نادٍ للسينما في مصر، وشارك في البرنامج الثقافي للإذاعة. وكان صلاح الدين أديباً وشاعراً، ونشر في نهاية حياته ديوانين لأعماله الشعرية. اشترك صلاح الدين، كتلميذ عمره 17 عاماً، في مظاهرات ثورة 1919 واستمر في الاشتراك في المظاهرات في مدرسة الحقوق العليا، وفُصل مرتين، وعاد للدراسة حين طالبوا بالإفراج عن سعد زغلول في المنفى. 

في عام 1923، وأثناء انتخابات أول برلمان، كان عضواً في لجنة الطلاب (54 طالباً) للدعاية الانتخابية في مصر كلها. واشترك في مؤتمر الدعاية لمصر في لندن الذي رأسه مكرم عبيد وكان صلاح الدين يده اليمنى في الاجتماع واختاره مصطفى النحاس ليكون وكيلاً لوزارة الخارجية، وأصبح وزيراً للخارجية عام 1950 بالرغم من أنه لم يكن من جماعة فؤاد سراج الدين.. المسيطرة على الحكومة، بل من الأقلية من الوزراء الذين شاركوا في ثورة 1919، وكانوا مستقلين وتربطهم بالنحاس علاقة مباشرة. 

كانت له علاقة قوية بالصحافة.. دفاعاً عن الديمقراطية وهجوماً على دكتاتورية إسماعيل صدقي، وبدأ مبكراً في الدفاع عن القضية الفلسطينية دولياً، وتحدث مبكراً عن أهمية النهوض بالتعليم، والاهتمام بالمواهب وأهمية نشر الثقافة بين جموع الشعب وتدريب الطلاب على الديمقراطية. وفي عام 1951 اشتد هجوم الصحافة على الملك فاروق.. الذي طلب من النحاس أن تقدم الحكومة تشريعاً يحد من حرية الصحافة، فقال صلاح الدين في المجلس: من المستحيل أن يمر هذا التشريع في فرض قيود على الصحافة، وهي مسؤولية أمام التاريخ لا يمكن أن تتحملها حكومة الوفد، وفعلاً نجح صلاح الدين في إلغاء مشروع تحجيم الصحافة. وواضح الفارق بين موقف صلاح الدين وبين مواقف وزراء ورؤساء وزراء تولوا المناصب في عهود تالية. 

اشترك صلاح الدين مع مصطفى النحاس عام 1930 في المفاوضات مع هندرسون، وكان رسوله إلى القاهرة لأخذ رأي بقية الوزراء في مشروع الاتفاق، والتي انتهت برفض الاقتراح البريطاني. واشترك في مفاوضات 1936 والمعاهدة التي تمت. 

وفي عام 1950 تمت المفاوضات مع وزير خارجية بريطانيا، وفشلت.. لأن صلاح الدين أصر على الجلاء التام. وقد صُعق صلاح الدين من موقف أمريكا – بتأييد استمرار القوات البريطانية في مصر – ولم يكن يتخيل أن أمريكا.. التي تتحدث عن الحرية والديمقراطية تؤيد الاحتلال. وبعد أن يئس صلاح الدين من موقف بريطانيا المتشدد، أعلن في البرلمان أن على مصر أن تقطع المفاوضات. وكان الملك فاروق معترضاً على تعيين صلاح الدين وزيراً للخارجية، وكان يريد اتفاقاً يضمن بقاء الإنجليز في مصر.. ليحافظوا على عرشه، وكانت بريطانيا – بالاتفاق مع الملك فاروق – يريدون التخلص من صلاح الدين. واجتمع الملك مع السفير الأمريكي، وقال له ما رأيك في مصدق الموجود عندنا، ويقصد صلاح الدين. وكان مصدق قد أمم شركات البترول البريطانية في إيران. وعندما بدأت الصحف الأوروبية تكتب عن فضائح الملك فاروق الشخصية، طالب صلاح الدين من الوزارة اتخاذ موقف من الملك.. الذي يسيء إلى سمعة مصر. وعلم الملك بذلك فطالب بإقالة صلاح الدين، ولكن النحاس صرَّح أنه لا نية لتغيير وزير الخارجية الذي يتمتع بوطنية وكفاءة تامة. 

وأصدر صلاح الدين قراراً – أثناء الحرب الكورية التي اتخذت فيها مصر موقف الحياد – بمنع مرور السفن الحربية البريطانية والإسرائيلية في قناة السويس. وحين رفضت بريطانيا وأمريكا تسليح الجيش المصري، أعلن صلاح الدين أن مصر سوف تلجأ إلى مصادر أخرى.. لاستيراد السلاح، حتى لو كان الشيطان نفسه، وتمكنت مصر من استيراد السلاح بعقد صفقات مع سويسرا والسويد وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا. 

كان لصلاح الدين دور هام في إلغاء معاهدة 36، وكان مجلس الوزراء منقسماً، وكان مع إلغاء المعاهدة النحاس وصلاح الدين وإبراهيم فرج، وضد الإلغاء فؤاد سراج الدين. وكان هناك خوف من أن يقيل الملك الوزارة. وفي النهاية، في اجتماع مصغر حضره النحاس وفؤاد سراج الدين وصلاح الدين وإبراهيم فرج، تم الاتفاق على إلغاء المعاهدة، وحفظ سرية القرار حتى تحضير كل الأوراق القانونية. وفي البرلمان ألغى النحاس معاهدة 1936، ومعاهدة القسطنطينية من القرن التاسع عشر.. فكانت مفاجأة لبريطانيا وللغرب، وحاولت أمريكا أن تتدخل.. لتكوين مجموعة من أمريكا وإنجلترا وفرنسا وتركيا ومصر لحماية القنال، ولكن صلاح الدين سافر إلى فرنسا.. حيث خاض معركة دبلوماسية عنيفة، بينما كانت المقاومة العسكرية مستعرة، وسحب العمال المصريين من قناة السويس يؤثر سلباً على الإنجليز. وكان الهجوم على كفر عبده.. أمراً استغله صلاح الدين في باريس. وفشلت جهود الدبلوماسيين الأمريكيين ووزير خارجية بريطانيا في إقناع صلاح الدين، وكان هجوم القوات البريطانية على الشرطة في الإسماعيلية هو النهاية. 

وحدث حريق القاهرة وأقيلت وزارة النحاس، واستمرت الفوضى ستة أشهر.. حتى 23 يوليو 1952. 

كان موقف صلاح الدين وطنياً شجاعاً ودبلوماسياً رائعاً. وكان له دور في اتفاق جامعة الدول العربية، وساعد ليبيا وسوريا في مشاكلهم مع إيطاليا وفرنسا، وكان مؤيداً للقضية الفلسطينية. واتهم أمريكا علانية.. بأنها المتهم الأول في حريق القاهرة، لأنها أرادت تصفية القوة الشعبية، وعقاب لمصر على امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن.. إلى جانب أمريكا. وفي وزارة الهلالي – التالية لوزارة الوفد – بدأت بالتطهير، وقام صلاح الدين بتأييد الوزارة، وطالب بتطبيق القانون.. في حالة ثبوت فساد أو استغلال نفوذ. 

وبعد يوليو لم يختلف صلاح الدين مع الثورة.. حول تطهير الأحزاب، وأيَّد اتفاقية السودان.. التي وقعها نجيب مع بريطانيا، بل وسافر للسودان لمحاولة توحيد السودانيين. وأثناء مفاوضات عبدالناصر مع الإنجليز، طالب الإنجليز بإشراك أمريكا، وأعلن صلاح الدين رفضه.. لأن أغراض أمريكا هي الخوف من الشيوعية، وكذلك اشتراك مصر في الدفاع المشترك، واستغلال الثورة الاقتصادية للاستفادة منها، واستخدام المواقع الاستراتيجية المصرية، وأخيراً إرضاء بريطانيا وفرنسا، والتأكد من سلامة إسرائيل. وهي ليست مهتمة بالشعب المصري، ولذا رفض اشتراك أمريكا في مفاوضات مع بريطانيا. 

وفي عام 1954، انضم صلاح الدين إلى المطالبين بالديمقراطية، وفي عام 1956 وُجهت إليه تهمة محاولة قلب نظام الحكم، وحكمت عليه المحكمة العسكرية برئاسة الدجوي بـ15 عاماً، وتم العفو عنه بعد عام. وغادر مصر من 1957 حتى عام 1974، وبعد ذللك.. عاش في مصر حتى توفي عام 1991 في هدوء وبعيداً عن السياسة، ولكنه انغمس في الحياة الثقافية والفنية. 

لقد رحب صلاح الدين بالثورة، بل وتمت استشارته وتعيينه في لجنة الدستور، ولكن أحداث 1954 والتغييرات الجذرية التي حدثت في هذه الفترة، دفعت به إلى السجن لمدة عام، وابتعاده تماماً عن العمل السياسي. 

صلاح الدين وطني عظيم، ومثقف كبير، ومناضل نادر، دافع عن مصر ومستقبلها بكل ما يملك، وبكل شجاعة. ووقف ضد الملك فاروق بصرامة، ولكن اختلافه مع الضباط الأحرار بعد أحداث 1954 دفعت به إلى السجن عاماً، وفضَّل بعده الابتعاد عن العمل السياسي. فلروحه كل السلام. 

قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك. 

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة