د. أحمد يوسف أحمد
هي محاولة بالفعل، لأن أحداً لا يستطيع الزعم بامتلاك رؤية واضحة متكاملة.. لما سوف تؤول إليه الأمور في فلسطين والمنطقة، لكن خبرة قرابة السنتين من المواجهة بين إسرائيل والمقاومة في غزة والضفة.. وغيرهما من الجبهات تزوِّدنا بحقائق واستنتاجات، تساعدنا في رسم صورة – ولو تقريبية – للمستقبل.
وأولى الحقائق تتعلق بالمشروع الصهيوني الإحلالي في فلسطين، الذي واجهه الفلسطينيون عبر الزمن.. بحلقات من المقاومة متنوعة الأساليب؛ بين الكفاح المسلح والنضال المدني. صحيح أنها لم تُنجز مهمة التحرير، ولكنها سارت في خط بياني صاعد.. بصفة عامة عبر الزمن، إلى أن وصلت ذروتها بعملية 7 اكتوبر 2023، التي أعلم أن هناك من يتهمها بعدم الرشادة.. وحتى العمالة. لكن الدارس لخبرات حركات التحرر الوطني، يعلم أن الاتهام بعدم الرشادة يمكن توجيهه لها كافة.. دون استثناء؛ فقد بدأت جميعها من نقطة الصفر تقريباً، وفي ظل خلل فادح لميزان القوى مع المستعمر. لكنها – تحت وطأة القهر الاستعماري، وبفضل إيمانها بقضيتها، وتمتعها بحاضنة شعبية قوية، واتباعها أسلوباً غير تقليدي في الكفاح المسلح، وحصولها أحياناً على دعم خارجي – تمكنت من تحسين ميزان القوى بالتدريج، واستنزاف المستعمر، وإجباره على القبول بمطالبها؛ حتى وإن اضطُرت لتقديم تنازلات.. لا تمس هدف التحرر.
أما الاتهام بالعمالة للخارج، فمَرَدُّه حاجة حركات التحرر لدعم خارجي، يكون بعضه منزهاً عن الأغراض الأنانية؛ كالدعم المصري لحركات التحرر العربية والإفريقية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. وبعضه الآخر قد تكون له شروطه.. المؤثرة على استقلالية حركات التحرر. لكن الفيصل يبقى مرتبطاً بطبيعة الفعل التحرري، وهل يتجه لهدفه مباشرة أم ينحرف عنه.
وقد ردت إسرائيل على عملية 7 اكتوبر.. بما شاهده العالم كله من عنف مفرط ووحشية غير مسبوقة، حتى إن مواقف كثير من حلفائها وأصدقائها – باستثناء الإدارة الأمريكية طبعاً – تحولت من الإدانة المطلقة للمقاومة، والمطالبة باجتثاثها.. إلى التعاطف مع المطالب الفلسطينية؛ بغضِّ النظر عن استمرار المواقف تجاه المقاومة. والحقيقة أن صمود المقاومة، والوحشية الإسرائيلية، أحدثا تحولات حقيقية في الساحة الدولية وتأثيرات مهمة في الداخل الإسرائيلي؛ لعل أهم مؤشراتها التحولات الواضحة لصالح القضية الفلسطينية.. في الرأي العام العالمي – وبالذات الغربي – والانقسامات المتزايدة في الداخل الإسرائيلي.. حول إدارة الحرب، وبالذات بين المؤسستين السياسية والعسكرية.
ولم يكن الكثيرون – حتى من أنصار المقاومة – يتوقعون أن يستمر صمودها طيلة هذه المدة.. التي تجاوزت الآن ضعف أمد حرب التأسيس في 1948، وما زال نتنياهو غارقاً في عجزه عن حسم الحرب، رغم العمليات المتتابعة.. التي شنها دون جدوى، اللهم إلا القتل والتدمير.. من «السيوف الحديدية» إلى «القوة والسيف»، إلى «عربات جدعون»، إلى «الأسد المتأهب»؛ حتى باتت هذه المسميات مثاراً للسخرية.. بما في ذلك داخل إسرائيل. وهو الآن يتحدث عن عملية جديدة لاحتلال غزة بالكامل، رغم اعتراضات وتحفظات قيادة المؤسسة العسكرية، وعديد من القيادات العسكرية والأمنية السابقين، ويُبَشِر بقرب النصر.
وأُذَكِر – في هذا السياق – بتصريح جالانت.. وزير دفاعه السابق، في منتصف يناير 2024 – أي منذ أكثر من سنة ونصف السنة – بأن مرحلة القتال المكثف في شمال غزة.. قد انتهت، وأن الوصول إلى هذا الإنجاز في الجنوب.. قريب، بينما كان هاليفي – رئيس أركانه السابق – أكثر حصافة، فحذر من تراجع إنجازات الجيش، بسبب غياب خطة لما بعد الحرب، واضطراره للعودة لمناطق انتهى فيها القتال؛ نظراً لإعادة تجمع مقاتلي المقاومة. وقد كتبت على هذه الصفحة (بتاريخ 17 أكتوبر 2024).. مقالة بمناسبة مرور سنة على عملية «طوفان الأقصى»، بعنوان «هل يحتاج نتنياهو سنة أخرى؟» ولم يتبق له منها الآن سوى أقل من شهرين، بل إن هيئة أركانه تقدر المدة المطلوبة لإعادة احتلال غزة بالكامل.. بما لا يقل عن 4 أشهر، إن تحقق هذا الاحتلال أصلاً.
ويرى البعض أن صمود المقاومة.. يأتي على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته؛ بسبب فداحة الخسائر البشرية والمادية. وكأن استمرار الاحتلال، والقهر المستمر منذ بدايته – وقبل ظهور المقاومة بسنوات طويلة – هو الخير بعينه، ناهيك بأن هذه الخسائر.. سببها الاحتلال وليس المقاومة. بل إن التأمل في مطالب الاحتلال، يشير – بوضوح – إلى أن المطلوب من المقاومة.. التنازل عن كل شيء، في مقابل لا شيء؛ فالمقابل الذي يطرحه نتنياهو لاستسلامها التام، هو الهيمنة الأمنية الكاملة لإسرائيل في غزة، وحكمها من قبَل عناصر يرضى عنها، ليس من بينها السلطة الفلسطينية.. بالمناسبة.
والواقع أن الدلالات الأكيدة.. لخبرة قرابة سنتين من المواجهة، أن نتنياهو لا يريد تسوية، وإنما يريد اتفاقاً يحقق له كل أهدافه.. التي فشل في تحقيقها بالقتال حتى الآن، وهذا سلوك مناقض لأبجديات التفاوض. ويُمَثِل هذا النهج.. السبب الأصيل في فشل جهود الوساطة؛ خاصة في ظل التسليم الأمريكي الكامل لنتنياهو، رغم تصريحات الببغاوات المتكررة.. عن ضرورة إنهاء الحرب، وقرب التوصل لاتفاق.
ومن المؤكد، أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في جدوى التفاوض أصلاً.. طالما أن هدف إسرائيل منه، هو تحقيق انتصار لم تتمكن – حتى الآن – من تحقيقه بالقتال. ويدعو البعض للقبول بأي شيء.. أفضل من الضياع التام للقضية الفلسطينية؛ وهو سيناريو مستحيل، حتى لو خسرت المقاومة هذه الجولة.. لا قدر الله.
ويُحذر هذا البعض من أن غزة والضفة.. سيتم تفريغهما من سكانهما، فتصبح فلسطين أثراً بعد عين، وهو منطق بالغ التبسيط، يدعو للقبول بأوضاع من شأنها استدامة الصراع للأبد، وهي مقولة أصبح كثير من العقلاء في إسرائيل يفهمونها الآن، فدعونا لا نكون ملكيين أكثر من الملك؛ فمقاومة الاحتلال يمكن أن تنكسر في جولة.. بل وجولات، لكنها تعود أقوى دائماً، ومن لديه شك ليعكف على قراءة تاريخ حركات التحرر في العالم، بل ليقرأ تاريخ النضال الفلسطيني ذاته.. رغم كل عثراته.
نقلاً عن «الأهرام»