Times of Egypt

محاضرة عن مصر للفرنسيين.. خمس بصمات أساسية 

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن 

(1) 

في المعهد الثقافي الفرنسي بحي المنيرة – حيث قضى الرئيس إيمانويل ماكرون أمسية في زيارته الأخيرة – ألقيتُ محاضرة عن «المجتمع المصري» في عدد من الدبلوماسيين الفرنسيين، يدرسون اللغة العربية الفصحى. 

تحدثت عن البصمات الخمس – المستقرة والمستمرة – على مجتمعنا، وهي: النيل، الذي صنع الدولة المركزية، فيما ساهمت الزراعة.. في تعليم المصري المزاوجة بين التفكير بالأسباب والنظر إلى ما وراء الطبيعة. والدين بتصوراته وطقوسه.. عن الحياة والموت، والتعاون في الواقع وتخيل الغيبيات. والمكان (أو القدر الجغرافي) الذي علم المصريين التعددية والتكيف، والزمن أو التاريخ الممتد، حيث أقدم مجتمع ودولة والطبقات الحضارية، وقياس الحاضر على الماضي وانهمار الحنين، والناس الذين شكلوا العائلة والطبقة ونظموا البيروقراطية واشتغلوا بالحرف والمهن وأنتجت قريحتهم الموروث الشعبي الثري.. من سير وأغانٍ وأناشيد وحكم وأمثال وأساطير وخرافات. 

كما تحدث عن العوامل الجديدة أو المستحدثة، ومنها: الهجرة أو الاغتراب وتقلبات السياسة من الملكية إلى الجمهورية ومن الاشتراكية إلى الانفتاح ومن الاستقلالية إلى التبعية، ومنظومة القوانين التي تلعب دوراً في هندسة المجتمع على أسس مغايرة، والتعليم ودوره في الحراك الاجتماعي وصناعة النخب الحديثة، والمجتمع المدني بنزعيته الحزبية والحقوقية، والتركيبة السكانية ومسألة تمكين الشباب والنساء وصراع الأجيال وتكاملها، والعمران الذي شهد ظهور المدن أو الأحياء المسورة، والحالة الدينية الراهنة المؤسسية والسائلة، والمتعددة دينياً ومذهبياً ووفق التصورات والنزعة الخيرية أو التراحم والتكافل، وأخيراً العولمة وما فعلته ثورة الاتصالات بنا وبغيرنا، حيث هوس الشهرة، وانفلات التعبير وتشويهه مع وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما مع الاستقطاب السياسي والسجال العقائدي. 

سأل أحد الدبلوماسيين عن المستقبل، فقلت له: إن مصر دائماً، وكما تُعلمنا تجربتها الممتدة، كانت كلما ضعفت وظن الناس انتهاءها.. قامت من جديد، بفضل استغلال مخزونها الحضاري وقوتها الكامنة، حين تجد خطة علمية وإدارة كفئاً، وحدثته عن أن مصر – من دول قلائل على الأرض – لا ينتظر منها العالم مجرد النهوض بأهلها، إنما تقديم رسالة إلى البشرية، وهذا قدرها. 

(2) 

‏في رواية «عودة الروح»، لتوفيق الحكيم.. إجابة عن سؤال: كيف حافظ المصريون على بلدهم رغم المحن والخطوب التي مرت بها؟ فقد مرَّ فلاح بائس أمام خواجة يجالس عمدة قرية، فأبدى الأجنبي احترامه للفلاح، وحين اندهش العمدة. قال له: هذا الذي تحتقره، تسكن تحت جلده حضارة عمرها سبعة آلاف عام. إن هذا واحد من الأسرار المهمة، التي تبين لماذا تتوالى الخطوب، وتحافظ مصر على وجودها.. محمولة على أكتاف بسطاء المصريين، الذين ينحازون من بين النخب إلى أشواق الناس للحرية والكفاية والعدالة والكفاءة والكرامة. 

(3) 

يمكن القول باطمئنان.. إن من أفضل الأعمال لفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر د. أحمد الطيب، أنه فتح مساراً عفياً للتفاهم والحوار بين أتباع الأديان والمذاهب، مفرقاً في هذا بين التسامح والتساهل. فرأيناه يمد يده لبابا الفاتيكان.. على تعايش مشترك، ورأيناه يمد يده لأتباع المذهب الشيعي – بوصفه على رأس أكبر مؤسسة دينية لأتباع المذهب السني – ورأيناه قبل ذلك يعرف قدر الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، ويعطيها – من قوله وفعله – الكثير مع قداسة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ورأس الأرثوذكس في العالم. 

في كل هذا، ينطلق الطيب – من منبع إسلامي وإنساني في آن – فهو يتصرف على أن رسالة محمد (عليه الصلاة والسلام).. رحمة للعالمين، ويفهم أن بين البشر في مشارق الأرض ومغاربها – وإن اختلفت معتقداتهم ومذاهبهم – مشتركات من المعارف والقيم والحكمة والتاريخ والمصالح والمنافع؛ ما يستوجب الوقوف عنده، وعدم إهماله.. تحت أي حجة أو ذريعة. لم يكن الأزهر قبل هذا بعيداً تماماً – بالطبع – عن كل هذا، فقد سبق له الخوض فى حوار أتباع الأديان والحضارات، والانخراط في تقريب المذاهب، لكن الحق يقال.. إن هذه الخطوات صارت أسرع، وأكثر تقدماً.. في عهد الشيخ الطيب، والأهم أنها جاءت في ظل تحديات حقيقية تواجه البشرية، بل تواجه الأديان نفسها، بعد انحراف كثيرين بها عن مسارها الطبيعي ومقصدها الأساسي الذي يدعو إلى الامتلاء الروحي، والسمو الأخلاقي، والخيرية أو التعاون فى كل شيء؛ الضروريات والحاجيات والتحسينيات. 

(4) 

فقدنا هذا الأسبوع ثلاثة من أطيب وأجمل الرجال في ربوع مصر؛ الأول هو الدكتور طه عبدالعليم – مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية – الذي كان من طليعة الحركة الطلابية في سبعينيات القرن العشرين، التي برزت فيها أسماء مهمة مثل: أحمد عبدالله رزة، وأحمد بهاء الدين شعبان، وزين العابدين فؤاد، وسهام صبري، وغيرهم كثيرون، يضيق المقام هنا بذكرهم جميعاً. 

بدأ طه العمل بالإذاعة المصرية، وتم نقله ليعمل موظفاً بوزارة التجارة الخارجية في عهد السادات، عقاباً له على نشاطه السياسي، لكنه انتقل فيما بعد إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام».. وقت أن كان الأستاذ السيد يس يتولى إدارته، وحصل على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من جامعة موسكو الحكومية عام 1985. لم يتوقف عبد العليم عن التأليف في مجال الاقتصاد – ولا سيما مجال الصناعة، الذي أعطاه الكثير من وقته – ولم يكن يفصل الاقتصاد عن السياسة، فهو كان مدركاً للجمع بين الاثنين فى التحليل والتصور، أي أنه كان من النابهين في مجال «الاقتصاد السياسي» ما تعكسه اهتماماته ومقالاته مثل: «في أصول محاربة مصر للإرهاب»، و«حين يتحقق حلم الحاكم العادل»، و«حين تحرر المصريون من الأوهام»، و«رؤية وبرنامج للمرشح الرئاسي»، و«عن تاريخ مصر والمصريين»، و«إعادة زيارة فجر الضمير». 

والثاني هو القمص عبدالمسيح بسيط، وهو كان رجلاً طيباً، محباً للناس، ذا عقل راجح ونفس رضية، حتى إننى أيقنت أن له من اسمه نصيباً كبيراً. دار بيننا حديث بين فترة وأخرى لم يخرج عن أحوال مصر، وتمنى السكينة والرفعة والحرية لأهلها. والثالث هو الدكتور المهندس مكرم خليفة، الذي عاش طوال حياته يدافع عن الصالح العام، وينحاز إلى أولئك الذين يناضلون في سبيل الانحياز له، والانتصار له، والتصدي لكل من وما يجور عليه. 

هذا الرجل الطيب أوصى – قبل وفاته – بألا يقام له سرادق عزاء، وأن توجه التكلفة.. التي تخصص لذلك، صدقة للفقراء على روحه الطيبة. 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة