Times of Egypt

«مبلغ العلم فيه.. أنه بشر» 

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال

في يوم مولده، وجبت مضاعفة الصلاة والتسليم عليه؛ «فاللهم صل وسلم، وزد وبارك، وأتمم – على سيدنا محمد وآله – عدد ما في علمك.. صلاة دائمة بدوام ملكك، واجزه يا رب.. خيراً؛ بما هو أهل له. واجر يا رب لطفك الخفي.. في أمري وأهلي وأولادي وبلادي، وسائر عبادك المخلصين».. 

أرددها مضاعفة في ذكرى يوم مولده – صلى الله عليه وسلم – فيما أرددها وأتذوقها كل يوم.. مثلما رددها وعاشها بكل جوارحه سلف لي؛ آباء وأمهات وأهل وجيرة، وأغوص في عمق زمني ثلاثة أرباع قرن، وأعيش الطفل الذي تحممه أمه، وتلبسه ملابس خروج نظيفة، تفوح منها رائحة «صابون سانلايت»، وتضيء ألوان الزهرة، ليمضي إلى ساحة المولد، وجيبه دافئاً بعشرة ملاليم حمراء، على أحد وجهيها رأس ووجه وجزء من عنق الملك فاروق الأول ومن كتفيه.. معتمراً الطربوش، وحول الصورة المسبوكة عبارة من شقين: فاروق الأول. ملك مصر، وعلى الوجه الآخر كتبت «المملكة المصرية» واحد «مليم»، ثم التاريخ أسفل الدائرة.. التاريخ الهجري 1369 ثم الميلادي ؛1950 حيث كان عمري أربع سنوات.

ومن الدار.. القريبة من حافة بركة المياه الضخمة المحيطة بالقرية، إلى السكة التي تقوم على ناصيتها اليسرى قهوة «هنو» – بشرفتها ذات الدرابزين الخشبي – ثم تصعد السكة باتجاه قصبة القرية (أو صرتها، أو قلبها المرتفع؛ لأنها – على غرار كل القرى القريبة من فرع رشيد وفرع دمياط – كانت تبنى على أعلى ربوة، لتحتمي من هجوم الفيضان. ويقوم المسجد الجامع الكبير.. مسجد الهاشمي ذو المئذنة المبنية على الطراز الرشيدي أسطوانية، يقترب ارتفاعها من خمسة عشر متراً، وداخلها درج حلزوني.. يؤدي إلى شرفة أولى عند ثلثها الأول، وإلى شرفة ثانية عند الثلثين تقريباً، وتنهى بعمود أسطواني أملس.. له رأس مخروطية مستديرة القمة، تبرز منها أعواد خشبية قصيرة، كي تقف الطيور عليها ولا تفرغ زردها «برازها» على رأس المئذنة! وللجامع الكبير درج.. يصعد لباحته. وكان على يمينه باب يؤدي إلى الميضأة «الميضة» والمراحيض.. التي تصرف الفضلات إلى «الخرارة».. (الحفرة الكبيرة العميقة المحاطة بأسوار من الطوب،، ونبت على حوافها الهيش، الذي هو خليط من البوص والحلفاء والبردي والنسّيلة، وتفوح منها رائحة الغازات إياها، يشمها المارة من بعيد، ولا يشعر بها أهل الدور المحيطة القريبة! 

وقبل الصعود للسكة الطالعة، التي تتواجه فيها بعض دور سادتنا العكاكزة – جمع عكاز – العائلة الكريمة التي أنجبت مشايخ الفلاحين.. والقضاة والعلماء.. وهم أخوال جدي لأمي، ننحرف شمالاً لسكة أخرى، كان عمنا «العتال» يقيم فيها المراجيح ويقدم الحلو.. وهو «بالوظة» من النشا المعقود بالسكر ولون التافتا الوردي، ومصبوب في كسر فخار مقعر قليلاً، حيث لا صحون ولا ملاعق.. ويلهط الأطفال والصبية ما في الفخارة بأصابعهم. والمقابل للتمرجح وللتحلية.. مليمان لا أكثر. ولمن لا يعرف فإن المليم، هو جزء من ألف من الجنيه – الذي هو مائة قرش – والقرش اثنان تعريفة، والتعريفة خمسة مليمات.. أي أن القرش عشرة مليمات.

ثم يأتي مساء المولد، ليتهيأ الجرن الكبير.. القريب من دوار «الروامنة» («آل رامون»)، ومن عب الجعابصة («آل جعباص»)، والامتدادات نحو الغيلان («آل الغول») والجروفة («آل الجرف»).. فتنصب نصبة العرض المسرحي.. الذي كانت تعرضه فرقة «نظيم». وهي فرقة مسرحية وغنائية متجولة في الوجه البحري. ويأتي الممثلون والممثلات والمؤدون.. ليبيتوا في ضيافة «آل العربي»، وليستعدوا للعرض بالملابس والزغلة («الماكياج»)، ونتسرب لنتلصص عليهم من فواصل بالشبابيك الخشبية المغلقة! وتمتلئ أرضية الجرن بالحضور كبار القوم.. من سادتنا مشايخ أهل الطريقة البرهامية، ومن كبار الفلاحين، وبعض الأفندية جلوساً.. على كراسي الفراشة، والباقي جلوس على الأرض.. متجاورين ضاحكين مبتهجين متصالحين؛ حيث لم تكن ظهرت صيحات الغلظة الفجة.. بأنها بدع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. 

ويبقى أثر النص والأداء المسرحي، وبعض ما تمت تأديته من مواويل أو أغان، ومن قفشات وتندرات «تأويز».. مستمراً، يردده الكبار والشباب طيلة العام، وهم يعملون ويكدحون. ولا يجدون أية غضاضة في تضفير.. ضفيرة العمل والعبادة والمتعة والبهجة، والتكافل والتراحم والمحبة المتبادلة.. بغير اصطناع ولا معصية، ولا شعور بذنب يضني العقل والقلب.

ثم كبرنا وابتعدنا نسبياً عن مراجيح وبالوظة العتال، وعن الجرن وفرقة نظيم. ولكن لم نبتعد لحظة عن الاحتفال بمولده. وكانت تلاوة القرآن، ثم الإنشاد الجماعي لبردة المديح.. التي نظمها الإمام شرف الدين أبي عبد الله محمد البوصيري، ومعها القصيدة المضرية، وبعدها القراءة الجماعية في مجموع الأوراد الكبير، الذي يضم أوراد الأقطاب.. عبد القادر الجيلاني، وأحمد الدردير، والبكري، والشاذلي، والرفاعي، والدسوقي، والبيومي، والنووي، وأدعية أخرى.. هي كلها مفردات احتفالنا، الذي طالما اعتقدنا أنه أحد أسرار عمار بيوتنا، وبركة أرزاقنا، ونجاح مقصودناـ وحماية أمننا.. دون أدنى إخلال بالتوحيد الخالص والإيمان القويم. 

لقد كانت – وبقيت – سنناً اجتماعية مصرية، أبدعها الوجدان الجمعي المصري، ليلتقي الناس بمحبة وتراحم.. في مولد النبي، وميلاد المسيح وقيامته، والاحتفالات بموالد العدرا، ومارجرجس، وآباء الرهبنة، والأقطاب الأربعة.. الجيلاني، والرفاعي، والبدوي، والدسوقي. ومعهم الشاذلي، وأبو العباس. ومن قبلهم آل البيت.. سيدنا الحسين، وأم هاشم الطاهرة، والسيدة نفيسة، والسيدة سكينة، والسيدة رقية، وعلي زين العابدين.. وعشرات من الكرام على الناحيتين. 

أرأيتم عبقرية الشعب.. في تغذية وجدانه الروحي والاجتماعي. 

وحدوا ربكم.. ومجدوا سيدكم.. وصلوا على نبيكم.. وكل من له نبي يصلي عليه.

وأختم ببيت الإمام البوصيري: «فمبلغ العلم فيه أنه بشر.. وأنه خير خلق الله كلهم».

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة