سمير مرقص..
في عام 1950 – قبل 75 عاماً – أصدر عالم الاجتماع البريطاني «توماس هَمفري مارشال» (1893-1981) كتابه المعنون: «المواطنة والطبقة الاجتماعية»؛ الذي عُد فتحاً نظرياً لمفهوم المواطنة، ولتأسيس مادة المواطنة.. ليس في الفكر السياسي فقط، بل في كل من الفكر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي أيضاً. وقد كان لنا سبق في تقديمه للقارئ المصري في التسعينيات من القرن الماضي. وقبل استعراض مساهمة الكتاب من قبل مارشال؛ كان للعقل الإنساني محطتان بارزتان.. لبلورة مفهوم «المواطنة»، كما يلي.
الأولى: ترجع لفلاسفة الفكر اليوناني الأقدمين؛ مثل: «أفلاطون» و«أرسطو»، اللذين حاولا أن يرسما نموذجاً للمواطنة يتناسب مع الدولة الإغريقية (اليونانية القديمة) في كتابيهما: «الجمهورية والقوانين» لأفلاطون، و«السياسة» لأرسطو طاليس. إذ اجتهدا في رسم الدولة النموذجية وكيفية حكمها ونموذج المواطنين المطلوبين لنجاحها. وبالرغم من القيمة الثمينة لتلك المؤلفات المبكرة، فإن الفكر الإنساني أهملها على مدى 15 قرناً حتى زمن «مكيافيلي» في القرن 16، إذ «كانت لا تدرس إلا قليلاً… وندر ما كان يفكر في القوانين الأساسية للمجتمعات» (يمكن مراجعة مقدمة أستاذ الفلسفة الإغريقية «بارتلمي سانتهلير» لترجمته لنص السياسة لأرسطو طاليس، الذي قام بترجمته إلى العربية الأستاذ أحمد لطفي السيد).
أما الثانية: فترجع إلى فلاسفة التنوير، مثل الفرنسي «جان جاك روسو» (1712 ــ 1778)، الذي أعاد الاعتبار للمفهوم في كتابيه: «العقد الاجتماعي»،و«أصل التفاوت بين الناس». وعلى أهمية ما طرحه «روسو» في ربط المواطنة بالحرية، وأهمية وجود عقد اجتماعي ينظم علاقة المواطن.. المأمول والمرتجى، إلا أن كثيراً من الشراح يتفقون على أن رؤية «روسو» – أو ما كان يطرحه – كان أقرب للوطنية من المواطنة. أو حسب المؤرخ البريطاني «ديريك هيتر»: «إن ما كان يدافع عنه روسو هو شكل جنيني للوطنية».
بعد محاولة روسو وأقرانه من فلاسفة التنوير الذين اجتهدوا لتجاوز التصورات الفلسفية المثالية لمقاربة المواطنة ـ التي كانت قيد التشكل مادياً آنذاك ـ وذلك في لحظة تحوُّل كبرى كانت تعيشها أوروبا عشية انطلاقة الثورات الاجتماعية -تأتي مقاربة «مارشال» التأسيسية للمواطنة التي تنطلق من الواقع والحركة المجتمعية التي شهدتها أوروبا على مدى قرن ونصف قرن تقريباً؛ منذ انطلاق الثورة الفرنسية، مروراً بزمن الثورات الأوروبية المختلفة والحروب الإقليمية في القرن التاسع عشر، وحتى الحربين العالميتين.. حيث شهد العالم تحولات مجتمعية جذرية على جميع الأصعدة: الاقتصادية، والسياسية/المدنية والاجتماعية، ساهمت في إعادة النظر في المواطنة وفق الواقع وليس المأمول. وما الحالة المواطنية المتبلورة.. إلا نتاج التطور الاقتصادي، ومن ثم الانتظام الطبقي، وبناء الدولة القومية/الوطنية الحديثة بمؤسساتها المختلفة للحكم. بلغة أخرى، إذن، المواطنة بالمعنى «المارشالي» تأتي ثمرة للحركية المجتمعية التي شهدتها مجتمعات ما بعد الثورة الفرنسية، سواء في أوروبا وخارجها. آخذاً، بطبيعة الحال، في الاعتبار فروق التطور بين المجتمعات.
في هذا السياق، درس «مارشال» الموضوعات التالية: أولاً:الجسم الطبقي البريطاني من منظور المواطنة. ثانياً:التغيرات التي لحقت بالجسم الاجتماعي بما يضم من شرائح اجتماعية «متراتبة» وما طرأ عليها من تغيرات في ضوء التطور الاقتصادي الرأسمالي منذ مطلع القرن العشرين إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ثالثاً:التطورات التي طرأت على الدولة ومدى قدرتها الاحترافية على بلورة سياسات اجتماعية ملائمة للبنية الاجتماعية وتطوراتها. رابعاً:طبيعة الصراعات الاجتماعية والطبقية. خامساً:طبيعة ومحددات الأوضاع الاجتماعية الناشئة عن العملية الاقتصادية السائدة والصراعات الاجتماعية والسياسية التي يتعرض لها المجتمع البريطاني. سادساً:ملاحظات بحثية حول المكانة، والعمل، والثروة، والملكية، والاقتناء.
وتُعد مقاربة «مارشال» اكتشافاً مهماً لا يقل أهمية عن الاكتشافات العلمية التي سجلت فارقاً/فروقاً في التاريخ الإنساني، إذ استطاع «مارشال» رصد المواطنة: الفعل والممارسة؛ وعلاقة المواطنين في شتى طبقات وشرائح الجسم الاجتماعي/الطبقي ببعضهم البعض من جهة، وفي علاقتهم بالدولة من جهة أخرى. كذلك تتبع الحركية المواطنية في كل من المجال: الشخصي والخاص والسياسي/المدني والعام. والاعتراف بحقوق هؤلاء المواطنين.
وبالأخير، وحسب ما خلصنا في كتابنا «المواطنة والهوية: جدل النضال والإبداع في مصر»، دار العين ــ 2024، فلقد استطاع مارشال إنجاز ثلاث مهام كبرى – في مقارَبته التأصيلية والتأسيسية للمواطنة – على النحو التالي: المهمة الأولى:الانتقال في مقاربة المواطنة مما أطلقت عليه المقاربة السكونية التي تقارب المواطنة بمعزل عن السياق الاقتصادي/الاجتماعي/السياسي إلى المقاربة الديناميكية التي تنظر إليها من خلال علاقة الفرد (أو بالأحرى نضال المواطن) بالبنى القائمة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ ذلك لأن المواطن-المواطنين يتحرك/يتحركون في فضاءات اقتصادية واجتماعية وسياسية يتم فيها، عملياً، اختبار المواطن لمواطنيته/المواطنين لمواطنيتهم، وذلك في كيفية اكتساب الحقوق ومن ثم «دسترتها» وتقنينها بحيث لا يمكن الرجوع عن ما يتم اكتسابه من حقوق.
المهمة الثانية:صحيح أن مارشال قد أنجز مقارَبته للمواطنة في سياق المجتمع الرأسمالي الصناعي الأوروبي عموماً والإنجليزي بالأساس، إلا أنه فتح المجال لدراسة المواطنة في المجتمعات ذات الطبيعة الاقتصادية المختلفة في أوروبا وخارجها. أما المهمة الثالثة:نجح مارشال في جعل مادة المواطنة حقلاً معرفياً متكاملاً (نشير إلى ما كتبه البروفيسور البريطاني «برايان ترنر» (80 عاماً) في كتابه الأخير «صعود وهبوط المواطنة»،2024، بأن «مارشال» قد أسس من خلال كتابه الكشفي علم اجتماع المواطنة).
وعليه صار لهذا الحقل أدبيات تدرس علاقة المواطنة: بالدولة القومية، وهيكل الدولة، والدين، والثقافة، وأنماط الإنتاج، والبناء الطبقي، والتربية، والهوية، والحركات الاجتماعية، والحداثة، والعنف، والخصوصية الثقافية، والتنمية، والعولمة، والمجتمع المدني، والسياسات الاجتماعية، ومنظومة القيم الثقافية والاجتماعية، وموازين القوى المجتمعية، والانتماءات الأوَّلية، والتكوينات الحديثة، والثورة الصناعية، وبكل ما يطرأ على المجتمع الإنساني من تطورات فكرية ومادية… إلخ. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلقد تكونت أجيال جديدة نجحت في تطوير أطروحات «مارشال» الكشفية الأولى من جانب، والأخذ في الاعتبار المستجدات التي لحقت بالمجتمعات في الزمن الرقمي وبأجيال الذكاء الاصطناعي من جانب آخر،وألا يتوقف البحث على دول ومجتمعات المركز الأوروبي فقط، بل تمتد إلى دول ومجتمعات عالم الجنوب أيضاً. تحية لمارشال في ذكرى اليوبيل الماسي لكتابه.
نقلاً عن «الأهرام»