محمد أبو الغار..
قرر جيف بيزوس – صاحب الواشنطن بوست، وثاني أغنى رجل في العالم – أن على كُتّاب الرأي.. أن يلتزموا بمقالات تسمح فقط بحرية كاملة للأسواق، وألا يكتبوا أفكاراً مخالفة. واستقال دافيد شبلي.. رئيس تحرير صفحة الرأي. هذه كارثة صحفية لـ«الواشنطن بوست».
وفي الشهر الماضي، نيويورك تايمز عملت عملة زي وشها، ضغطت على أهم كاتب رأي في الصحيفة.. حتى اضطر إلى التوقف عن الكتابة فيها. أمريكا شيكا بيكا.. يحدث فيها تحول جذري، ليس فقط بانتخاب ترامب باكتساح، وإنما بتغيرات مفصلية في أمريكا. المفروض أن الصحافة الأمريكية تتمتع بحريات واسعة، والنيويورك تايمز تُعتبر من أهم صحف العالم، ومشتركو الجريدة 11.4 مليون قارئ.. بين صحيفة ورقية وأخرى إلكترونية، ومجموع إيرادات الصحيفة في الثلاثة شهور الأخيرة من عام 2024 كان 726 مليون دولار.
الكاتب الشهير بول كروجمان – أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك، وأيضاً حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008 – كتب مقالة طويلة في الصحيفة – التي انتقل إليها بمزاجه – شرح سبب تركه النيويورك تايمز. وقالت رئيسة صفحة الرأي ونائبها – وكذلك الناشر – إنهم كانوا يودون أن يستمر كروجمان معهم. لكن كروجمان يقول إنه في عام 2024، حدث تغيير جذري في توجه الصحيفة نحوه، لأنه كان يكتب مقالتين وعموداً خبرياً كل أسبوع، ولكنهم قرروا تخفيض ما يكتب. واشتكى كروجمان.. من أنه خلال 25 عاماً، لم يحدث تغيير في مقالته، وإذا حدث.. فكان بسيطاً للغاية، ولكنه لاحظ منذ عام 2024، أن المحرر بدأ يتدخل في مقالته، وأدى ذلك إلى تخفيض نبرة المقالة، والحماس والروح فيها. وكان عليه إصلاح ذلك، مما شكّل صعوبة له واستهلك وقته وطاقته أكثر من كتابة المقالة نفسها قبل التعديلات.
وقال كروجمان إنه أصبح يخاف من أيام الاثنين والخميس، لأن رئيس التحرير كان يعيد كتابة جزء كبير من المقالة، فيقوم كروجمان بإلغاء ما تم تغييره، ويعيد صياغته. وكان هذا يضيع جهداً كبيراً، ويتسبب له في ضغط عصبي. صحيح أنه لم يُنشر شيء بدون موافقته، إلا أن الجهد العصبي كان كبيراً.
وأجابت نائبة رئيس التحرير، بأن كروجمان كان من أقوى وأهم كتّابنا، ونحن لم نحجب شيئاً له، وأنه كان أقوى الأصوات.. التي حذرت من ترامب وسياسته طوال عام 2024، وفضحت كذبه.
ثم قالكروجمان: «أنا لا أريد معركة مع النيويورك تايمز. لقد عملت، ورأيت، وشعرت، وتركت، وأنا الآن تحركت لمكان آخر، ولكني أريد أن أتحدث عن حال الصحافة. فعندما تعاقدت معي الصحيفة عام 1999، كنت أستاذاً للاقتصاد.. يكتب مقالات بحثية من 5000 كلمة أو أكثر، وطُلب مني أن أكتب مقالاً من 800 كلمة»، واستطاع كروجمان أن يفعل ذلك بمهارة، وأصبح له قراء في العالم كله، وأصبح مؤثراً في المجتمع. وساندت الصحيفة موقفه من جورج بوش.. حين حاول خصخصة الضمان الاجتماعي، وموقفه المؤيد لـ«أوباما كير»؛ حين كان هناك خوف غير مبرر منه على الاقتصاد. كما كانت له مواقف حادة – وكانت رئاسة الصحيفة في غاية العصبية – تجاهها، مثل موقفه الحاد في رفض الهجوم على العراق، لأنه لم تكن هناك أدلة على وجود أسلحة دمار شامل هناك، ومع ذلك لم يُحذف له سطر، وفي النهاية اعتذرت الجريدة للقراء عن موقفها المؤيد لحرب العراق، وأنها كانت على خطأ.
في السنة الأخيرة، تم دفعه إلى ألا يقول شيئاً بوضوح وصراحة كاملة. وفي النهاية، يشكر بول الصحيفة.. لإعطائه الحرية ليعبّر عن رأيه لسنوات طويلة، توقفت في العام الماضي.
تأتي الولايات المتحدة في المرتبة 55، في جدول حرية الصحافة العالمي لعام 2024، وهو ترتيب متوسط، إذ تسبقها دول شمال أوروبا جميعاً، ولكنها متقدمة بمراحل مقارنة بالدول العربية، التي تحتل مراكز من 128 حتى 170.
حرية الصحافة شيء مهم لأي دولة، وهي هامة للملوك والرؤساء وللنظم الحاكمة.. كما هي هامة للشعب. الصحافة والإعلام – بكافة أنواعه – هو الذي ينبه النظام الحاكم.. إلى وجود أخطاء يجب تفاديها، وهو الذي يكشف الفساد ويفضح الفاسدين. وبالرغم من أن أمريكا لها مكانة تاريخية متقدمة.. في جدول حرية الصحافة العالمي، إلا أن هناك ضغوطاً تُمارَس على صحفيين.. لتغيير وتعديل ما يكتبونه. وسألت بعض الأصدقاء في أمريكا عن السبب، فكانت الإجابة أن الصحافة في أمريكا عموماً.. تعاني أزمة اقتصادية، وأن دخول الصحافة في هجوم شديد على كبار الرأسماليين والمليارديرات.. يضعها في مشكلة. وهناك اتجاه من كبار الرأسماليين إلى شراء بعض الصحف المناكفة، وتعديل سياستها التحريرية، وبعد بضع سنوات إغلاقها والخلاص منها. وهذا يعني أن حرية الصحافة أمر هام، ولذا يجب الفصل بين الملكية والإدارة.
وواضح أن حرية الصحافة في أعلى درجاتها.. موجودة في دول شمال أوروبا؛ وهي دول رأسمالية، ولكنها تطبق الديمقراطية الاجتماعية، التي تضمن حرية كاملة للصحافة.. بالرغم من أنها مملوكة لأفراد أو شركات، أو أحزاب.. من مختلف الاتجاهات.
حين سُئل عدد من محرري الرأي في النيويورك تايمز.. عن تدخلات رئيس تحرير صفحة الرأي، أجابوا بالنفي، وأكدوا أنه لا توجد تدخلات، ومنهم الكاتب الشهير فريدمان.
تابعت – بصفة دائمة – مقالات كروجمان، التي كانت شديدة الليبرالية بالنسبة للتفكير الأمريكي المحافظ، وكانت تهاجم قيادات الحزب الجمهوري على طول الخط، وكانت هامة في نقاش الاقتصاد في أمريكا والعالم، وتأثيره على السياسة والبشر.. بلغة سهلة وبسيطة ومفهومة.
… الآن، كروجمان سوف يكتب في صحيفة.. قراؤها أقل من مليون أمريكي، ولا يعرف عنها أحد الكثير، وسوف يفتقد قراؤه ومحبوّه آراءه الشجاعة الواضحة.
إذا نظرنا إلى نسبة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.. لمعرفة الأخبار والتعليق عليها، فسنجد أنها لا تمثل شيئاً في الدول ذات الوضع المميز في جدول حرية الصحافة. الناس يقرؤون كل شيء في الصحيفة، والصحف تعيش وتوزع جيداً.. ورقياً أو إلكترونياً، ولذلك يُستخدَم الإنترنت عندهم.. في التعليم والبحث والدراسة والترفيه، مثل مشاهدة الأفلام. أما في الدول ذات الترتيب المتأخر في جدول حرية الصحافة، فيلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي.. تحتل دوراً رئيسياً وجوهرياً في معرفة الأخبار والتعليق عليها. وتوجد عشرات المنصات على الإنترنت، تقدم أفكاراً مختلفة، ومعلومات صحيحة أو غير صحيحة، ويتضاءل معها توزيع الصحف. والواضح أنه كلما زادت حرية الصحافة، حدث رواج في توزيعها، وضعفت قدرة فيسبوك وغيره وفقد أهميته.
وفي النهاية لا توجد حرية صحافة كاملة، كما لا توجد حرية كاملة للإنسان. وكلما زادت حرية الصحافة، عرف الحكام أخطاءهم، وتمتعت البلاد بالشفافية، وتخلصت من الفساد والفاسدين. وهذا ينطبق على أمريكا.. كما ينطبق على كل بلاد العالم.
قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك.
نقلاً عن «المصري اليوم»
ماذا حدث لحرية الصحافة في أمريكا؟!

شارك هذه المقالة