محمد أبو الغار
شيء رائع وبديع أن تحضر إفطاراً رمضانياً في «مؤسسة بناتي».. وسط جمع هائل من الأصدقاء، وتشاهد رقصات وغناء.. عشرات من البنات، اللاتي تحولت حياتهن.. من بؤس وضياع ومخاطر في الشارع، إلى إقامة مريحة ورعاية صحية ونفسية، وحنان وحب، وتعليم عام وتعليم مهني، ثم تخرج للعمل والزواج.. كامرأة سوية عظيمة.
إنها فعلاً معجزة.. صُنعت بحب وجهد وعرق وصبر وتعاون من المئات من البشر.. الذين يحبون الخير ودعم الإنسانية. وكل ذلك، في جو من الحرية التامة، وبدون أي قهر أو ضغط، وإنما فقط النظام والعمل المصحوب بالحنية.
منذ أربعة عقود فقط، كانت هناك ظاهرة اسمها.. أولاد الشوارع، وفي ذلك الوقت.. انتقل أهل الريف إلى المدن، ليعيشوا في العشوائيات.. في ظروف غير إنسانية وغير صحية؛ فحدث تفكك في الأسرة، وانتشر الطلاق وتعدد الزوجات.. الذي انتهى بإطلاق الأطفال في الشوارع.. ليلتقطوا رزقهم. كان ترك الفتاة في الشارع شيئاً مستحيلاً وعيباً كبيراً، لا يمكن أن تتحمله أسرة مصرية.. مهما كانت فقيرة، وتعيش في ظروف صعبة. وكان هناك دائماً من يقوم بدور المنقذ – خال أو عم أو قريب – ولكن حين وصل التدهور إلى المنتهى.. خرجت الفتيات إلى الشارع، حيث يبتن هناك، ويتعرضن للحوادث والجروح والاغتصاب والحمل. وارتفعت الأعداد من الآلاف إلى مئات الآلاف، وفي إحدى الإحصائيات كان عدد أطفال الشوارع يتعدى المليون.
ومنذ ثلاثة عقود، اهتز الضمير المصري، وشعر ملايين المصريين بالحزن والأسى والغضب، حين قامت مجموعة من أولاد الشوارع.. بالاعتداء، وقتل مجموعة أخرى من أطفال الشوارع. كتبت هنا أبو الغار – أستاذة طب الأطفال – خطاباً إلى الراحل الصحفي العظيم مجدي مهنا.. نشره في عموده في «المصري اليوم» – التي كانت الأكثر قراءة في الصحف المصرية – بتاريخ 9 ديسمبر 2006:
أكتب إليك لأشكو لك ولقرائك، بعد أن شكوت لله من الظلم والحزن والإحباط الذي ألمَّ بي.. عند متابعتي ما نُشر، وقيل عن الجريمة الأخيرة الخاصة بأطفال الشوارع، التي تعامل الإعلام معها وكأنها فضيحة سينمائية، وتناسى أن الجريمة واقعة قبل سنوات، وأن الجميع شارك فيها.. من دولة وأفراد.
الحزن جاء من بشاعة الجريمة، التي لم ترحم أطفالاً.. أعرف من خلال عملي معهم، أنهم لا يقلون براءة، ورقة، وجمالاً عن أي من أبنائنا. وأنهم يعانون من الذُل، والجوع، والبرد، والاستغلال بشتى طرقه، وبالرغم من هذا يرون الشارع أحن عليهم من أهلهم.
تلقت د. هنا اتصالاً من المهندس سميح ساويرس.. مبدياً انزعاجه مما حدث، وأنه مستعد للمساهمة في حل المشكلة. كانت هنا تعمل متطوعة في مؤسسة لرعاية أطفال الشوارع، وكانت قد أقنعت عائلتنا الصغيرة.. بالتبرع لشراء بيت ليكون مقراً لاستقبال بنات الشوارع ورعايتهم، ومن الخبرة السابقة، قدمت مشروعاً متكاملاً لحماية بنات الشوارع، وتبرع سميح بالأرض في هرم سيتي.. بمدينة 6 أكتوبر، وتم إنشاء مجلس أمناء رأسته السيدة يسرية لوزة، واشتركت د. هنا مع الصديقة الرائعة د. إيمان إسكندر، والسيدة المتميزة منى فايق، مع مجموعة كبيرة من المتطوعين.. حتى وصلت مؤسسة بناتي إلى الدور الكبير الذي تلعبه الآن، ومنذ سنوات أصبحت د. هنا هي رئيسة مجلس الأمناء، ود. إيمان إسكندر نائب رئيس المجلس.
المؤسسة عندها وحدة متنقلة، بها ممرضة وإخصائية اجتماعية.. مدربتان على التفاهم مع البنات في الشارع، وإقناعهن بركوب السيارة، والذهاب إلى مركز الاستقبال في فم الخليج، حيث يأكلن وجبة ساخنة، ويتم تطهير جروحهن، ويستحممن بمياه دافئة، ويلبسن ملابس جديدة ونظيفة وشبشب جديد، ثم يُتركن للذهاب إلى الشارع. بنت الشارع عندها إدمان.. بعدم الرغبة في ترك الشارع، وحين تشعر الإخصائية الاجتماعية بأن الوقت أصبح مناسباً، تعرض عليها الانتقال إلى الإقامة المؤقتة في منزل المؤسسة في إمبابة، وهناك تعطى فترة.. حتى تكون جاهزة للإقامة الدائمة، فتنتقل إلى مقر المؤسسة الضخم في أكتوبر.
في مقر المؤسسة، يتم التأكد من عمل شهادة ميلاد، ويتم الاتصال بالأسرة.. إن وجدت، وتحاول المؤسسة إعادة الفتاة لتعيش مع الأسرة، وتحاول مساعدة الأسرة بإيجاد عمل للأب، وإقناعهم بأهمية وجود الفتاة بين أهلها. وإذا لم يكن ذلك ممكناً، تبدأ الحياة في مكان الإقامة، ويتم علاجها طبياً ونفسياً، وذلك يستغرق فترة، وتبدأ المراحل التعليمية حسب العمر.. داخل المؤسسة، وفي المدارس القريبة. ويتم تدريبهن على مهن مناسبة.. بحيث يمكنهن الالتحاق بعمل، ويعضهن الآن يعملن في مجال الفنادق.
وفي عام 2024، كان نجاح جميع البنات والامتحانات الدراسية واعداً. فتاة واحدة سوف تعيد السنة الدراسية.
تحاول المؤسسة على أن تحل محل العائلة.. في العطف على البنات والعناية بهن، والقسم النفسي يقوم بعمل مهم.. في إصلاح الأحوال النفسية للفتيات. ساعدت المؤسسة 15440 فتاة في مركز الاستقبال، وتلقت 2350 فتاة علاجاً نفسياً، وتم علاج 722 فتاة في العيادة الطبية، ودفعت المؤسسة إيجار مسكن 25 عائلة، حتى تستطيع الفتيات أن يعشن مع العائلة.
تقوم البنات بالاشتراك في نشاط رياضي ومسابقات ثقافية، ويتم توفير رعاية صحية كاملة لهن، ويذهبن في رحلة لمدة أسبوع.. على شاطئ البحر كل صيف. وهذا العام، نجحت 105 فتيات في امتحانات المدرسة الابتدائية والإعدادية، و19 فتاة في المدرسة الثانوية، والتحقت 7 فتيات بالجامعة.
يوجد بالمقر 6 فصول دراسية، و10 مدرسين، ومدير للمدرسة، ويذهب البنات بعد ذلك.. إلى المدارس الموجودة بالقرب من المقر.
جميع الفتيات تلقين رعاية طبية كاملة، بالإضافة إلى إجراء جراحات تجميلية.. لإزالة آثار التعدي عليهن في الشارع. وبعد أن كان طفل الشارع يفتح الباب، ويهرب إلى الشارع.. عندما يسمح عمره بذلك، الآن الباب يُفتح، ويتم طرده إلى الشارع. الفتيات يتعرضن للانتهاك الجنسي في سن مبكرة.
بالطبع يتم تمويل المؤسسة من المتبرعين، و30٪ من ميزانية المؤسسة تأتي من أفراد، والباقي من هيئات، ومن أهمها مؤسسة ساويرس الاجتماعية.. التي تؤدي دوراً مهماً.
لقد رأيت الأسبوع الماضي – في الإفطار الرمضاني – الدموع التي تنهمر من عيون الحاضرين.. عندما شاهدوا الأطفال.. كيف كانوا؟ وكيف أصبحوا.. بعد أن دبت فيهم روح الحياة الكريمة، وأصبح لهم مستقبل؟
تحية لمؤسسة بناتي، وكل القائمين عليها.. من متطوعين أو عاملين، وكل الذين يساندونها.
قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك.
نقلاً عن «المصري اليوم»