خالد عكاشة
«تشارلي كيرك» وُلد في 1993، ليبلغ من العمر (32 عاماً).. وقت وقوع جريمة اغتياله.. التي جرت على هواء الإعلام الجديد، الذي هو أحد فرسانه الكبار في الولايات المتحدة والعالم. والمقصود هي منصات البث الشخصي المستقل، التي تصنع من أصبح يطلق عليهم.. «المؤثرون»، وهي تسمية وتصنيف دال للغاية، تبتعد بمسافة عن نجوم الإعلام التقليدي، الذين ظلوا لعقود يطلق عليهم «المشاهير»، أو «النجوم» أو «الكبار». وكان يُفهم ضمنا أنهم قادرون على صناعة التأثير في القطاعات والشرائح الكبرى من الرأي العام. لكن تطوراً – على نحو ما بات اليوم – يتجاوز مفهوم الشهرة أو النجومية، أو الرصيد الكبير لدى القائمين على الصناعة الإعلامية.. إلى الوصول مباشرة إلى فعل وحجم التأثير، ومنه اشتقت التسمية.. دون الالتفات – أو إعطاء وزن – لطبيعة هذا التأثير؛ المهم أن كلا النمطين في جوانب كبيرة منهما يمثلان فعلاً سياسياً بامتياز!
لم يكن كيرك بحاجة للذهاب إلى استكمال دراسته الجامعية، فهو في سن (18 عاماً).. فور تخرجه من مدرسته الثانوية، أسس منظمة (Turning point USA) وترجمتها الحرفية «نقطة تحول الولايات المتحدة الأمريكية». لتتحول المنظمة نفسها – خلال سنوات معدودة – إلى أكبر شبكة «تأثير» ثقافي وسياسي على مستوى الولايات المتحدة بكاملها؛ فقبيل رئاسة دونالد ترامب الأولى، حققت هذه المنظمة عام 2016 إيرادات بلغت 4.3 مليون دولار، مقارنة بقفزة هائلة.. وصلت إلى 92.4 مليون دولار عام 2023.
النشاط الرئيسي الذي قام به تشارلي كيرك – من خلال منظمته – هو برامج البودكاست، وقيامه بإلقاء العديد من الخطابات، وتأليفه لبعض من الكتب؛ مثل كتاب «عقيدة ماجا» – الذي احتل صدارة الأكثر مبيعاً لعام 2020 – ليصبح بعدها كيرك مليونيراً وقطباً اعلامياً، جعل وسائل الإعلام اليمينية الشهيرة ترشحه.. لأن يكون خليفة لروبرت مردوخ – بعد تنحي الأخير عن رئاسة مجلس إدارة شركتي نيوز كورب وفوكس نيوز؛ فمنظمة كيرك لديها وجود في أكثر من 850 مقراً جامعياً، وتعمل على تنظيم عدد هائل من الفاعليات في جميع أنحاء البلاد. لذلك، لم يكن غريباً أن يصفه عالم النفس الكندي الشهير جوردان بيترسون (البروفيسور بجامعة تورنتو)، بأنه (كيرك) جاء من «اللامكان» قبل 10 سنوات، ليصبح الآن قائدا لأكثر المنظمات اليمينة الشبابية تأثيراً.. على الإطلاق.
بحسب مجلة تايم الأمريكية نهاية عام 2024، كانت هناك إشارة إلى القاعدة الجماهيرية الكبيرة للغاية لكيرك، من خلال برنامج البودكاست خاصته؛ إذ بث البرنامج حتى الآن أكثر من 750 حلقة، ليحتل المرتبة السابعة بين البرامج الصوتية على منصة «آبل بودكاست»، والمرتبة العاشرة على تطبيق «سبوتيفاي».
وقد ربطت المجلة ذلك، بما حظي به لاحقاً من مقعد أفضل من جميع أعضاء الكونجرس، في فاعلية أداء دونالد ترامب اليمين الدستورية في قاعة الكابيتول، مفسرة ذلك.. بأن ما بذله تشارلي كيرك من أجل وصول ترامب لسدة الحكم، يفوق ما فعله أعضاء الكونجرس مجتمعين. جوهر خطاب كيرك يتمحور حول إعادة الولايات المتحدة إلى نمط خاص من التعاليم المسيحية، ومناهض بشدة للحزب الديمقراطي، الذي يتهمه بتقويض الدور الصحيح الواجب على الكنيسة أن تلعبه.
ورغم بدايات كيرك العلمانية – التي حققت له شهرة كبيرة – إلا أنه في 2019، وبحسب ما ذكر كيرك نفسه تفصيلياً – بعد لقائه بقس وسياسي من كاليفورنيا يُدعى «روب ماكوي» – تأكد وآمن بجدارة الحركة المسيحية – التي تؤمن بأن دونالد ترامب ممسوح ببركة إلهية لقيادة الولايات المتحدة – ليتطور الأمر خلال التحضير للانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ بالإعلان الصريح عن إيمان كامل وارتباط أيديولوجي.. بما يُعرف بـ«تفويض الجبال السبعة»؛ هذا الاعتقاد الديني يدعو إلى ضرورة سيطرة المسيحيين المتدينين على «سبعة مجالات».. ذات تأثير ثقافي واجتماعي كبير، هي بالترتيب الحكومة، والإعلام، والأسرة، والأعمال التجارية، والفنون، والتعليم، والمجال الديني.
المناهضون لهذه الأفكار – من الحزب الديمقراطي وغيرهم – يرون أن تشارلي كيرك ومناصريه يقعون تحت مظلة تيار لاهوتي متطرف، اكتسب بعض التحورات على يد كيرك وأمثاله، ليصبح مؤمناً بمبدأ التفويض للجبال السبعة.. كي يصبح عقيدة تأسيسية للعمل السياسي؛ الذي يحول الآلية الديمقراطية إلى صراع روحي بين الخير والشر. وهذا ما جرى استخدامه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي اعتبر فيها المرشح دونالد ترامب.. مرسلاً من الله لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية من أعداء المسيحية، الذين انحرفوا وأضعفوا البلاد. وقد تعرَّض كيرك لهجوم واسع قبل واقعة الاغتيال؛ كونه مثَّل بوقاً مؤثراً وبشدة في تحويل الانتخابات الأخيرة إلى صراع ديني مبطَّن.. ببناء «حملة ترامب» على مفهوم المرشح ترامب ممثل المسيحية والدين، في مقابل الخصوم أعداء الرب. وحتى هذه اللحظة تضع جميع التحليلات الأمريكية المعتبرة هذا الأمر، باعتباره الدافع الرئيسي والوحيد، الذي يمكن أن يؤدي لاغتيال تشارلي كيرك على هذا النحو، الذي جرى أمام آلاف مناصري هذه النظريات.
لهذا – وبعد ساعات من واقعة الاغتيال – أمطرت وسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية.. بعديد المقاطع الدالة بقوة حول هذا الترجيح لدوافع الاغتيال، وأشهرها ما ألقاه في مؤتمر سياسي بواشنطن عام 2021، بتحريض المسيحيين على أن يهبوا وينتفضوا؛ مستشهداً بفقرة من الكتاب المقدس بإنجيل لوقا، تقول «احتلوا كل شيء حتى أجيء»، وهو – بحسب تفسير كيرك – دعوة دينية لا لبس فيها.. لاحتلال المساحة السياسية، وقطاعات السلطة الحاكمة وإقامة المسيحية فيها. ومن المقاطع – التي حققت عشرات الملايين من المشاهدات خلال ساعات أعقبت اطلاق النار عليه – كلمته في مؤتمر العمل السياسي المحافظ عام 2020 قائلاً: «أخيراً لدينا رئيس في الولايات المتحدة الأمريكية، يفهم جيداً أبعاد التأثير الثقافي للجبال السبعة».
تشارلي كيرك لم يُخفِ مناصرته للمسيحية الصهيونية، بل ظل طوال الوقت يروج ويدعم الفكرة القائلة إن الدفاع عن إسرائيل.. هو واجب ديني على المسيحيين بموجب العهد القديم. وذهب إلى الإيمان بأن سيطرة الصهاينة على أراضي فلسطين.. هو أمر ضروري، وجزء من خطة إلهية تنتهي بمجيء المسيح، ولا يمكن أن تكتمل بدون دولة يهودية في الأراضي المقدسة، لذلك لم يكن من السهل إخفاء الصدمة التي تسبَّبت بها واقعة الاغتيال.. في الأوساط السياسية المناصرة لإسرائيل في الولايات المتحدة، وهذا سبب آخر قد يدعو للتأمل أيضاً.
نقلاً عن «الأهرام»