Times of Egypt

«ليا نادلر» ومفهوم «المواطنة»  

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة  

عن مائة عام، رحلت يوم الجمعة الماضي، سيدة مصرية عظيمة، هي السيدة «ليا نادلر»، أرملة الراحل الكبير؛ الدكتور «بطرس غالي»، أمين عام الأمم المتحدة الأسبق. وُلدت «ليا» لأسرة يهودية، في «الإسكندرية» الكوزموبوليتانية، في عام 1924، (وهو نفس العام الذي تولت فيه شخصية مصرية يهودية مرموقة وزارة المالية، وهو «يوسف قطاوي باشا»). 

في مطلع الخمسينيات، اقترنت «ليا» برجل من بيت سياسي مصري عريق في وطنيته – ولو كره الكارهون – هو أستاذ القانون الدولي، حينئذ، الدكتور «بطرس غالي». صاحبت «ليا» الدكتور «بطرس» طوال مسيرته الأكاديمية والسياسية.. بكل تطوراتها وتقلباتها المثيرة، وكانت خير الرفيق، حتى رحيله. 

كان الحديث مع «ليا» ممتعاً، مبيناً عن قدر من الثقافة السياسية والتاريخية لا يُستهان به، فضلاً عن قدرة تحليل رائعة للمشهد السياسي العالمي الراهن بأوجز العبارات.. حتى بعد وفاة الدكتور بطرس بعدة سنوات، وأيضًا القدرة على التواصل مع محدثيها، بأربع من اللغات الحية. 

* فى أعقاب انتفاضة المصريين في الثلاثين من يونيو 2013، تحركت أذرع الإخوان المسلمين وحلفائهم وأذنابهم في كافة أنحاء العالم، تحركوا لحصار مصر ما بعد حكم الإخوان. وفي ظل المناخ السياسي العالمي غير المواتي للتغير الحادث، دعا أحد رؤساء وزراء فرنسا السابقين «كاتب وشاعر» الدكتور بطرس غالي وزجته «ليا» للعشاء في أحد مطاعم «باريس». وقد حكت لي «ليا»، ذات مرة، عما دار في تلك الليلة. وذلك حين عبر الداعي – رئيس الوزراء الفرنسي السابق – عن معارضته لما حدث في الثلاثين من يونيو، إذ انبرت «ليا» حينها.. لتقرعه وتلقنه درساً عن سُخف المتاجرة بتعبير «الديمقراطية»، وتوظيفه ككلمة حق يُراد بها باطل، وأن التغيير الذي حدث في «مصر» كان تعبيراً عن رغبة عشرات الملايين، يمثلون الأغلبية الكاسحة من المصريين.. الذين نزلوا تعبيراً عن رفضهم للحكم باسم الدين، ممثلاً في الإخوان المسلمين. (تبين لنا فيما بعد أن لرئيس الوزراء المذكور علاقات ومصالح وطيدة ومؤكدة.. مع أكبر نظام داعم وممول للإخوان المسلمين، ولإحداث اضطرابات في مصر). 

* كانت آخر زياراتي لها.. منذ نحو ثلاثة أشهر، وجدتها جالسة – بعودها الفارع الرشيق – على كرسيها المفضل، وبجوارها كأس من مشروبنا المفضل، الذي أعده لها مساعدها الأمين «عبودة».  

تجلس كالمعتاد، في زي بسيط أنيق، بين مَن هما أشبه ما يكونان بملاكيها الحارسين، أقرب الناس إليها؛ منير وليلى نعمة الله. كانت حالتها الصحية جيدة جدًا.. بالنسبة لمَن بلغ من العمر قرنًا من الزمان. ذاكرة حاضرة، ويقظة ذهنية، مع ضعف بسيط في حاستي السمع والبصر. 

كانت عائلة «نادلر» من أشهر صُناع حلوى الملَبِّس (البونبوني) والشيكولاتة والبسكويت، وكان اسم «نادلر» ماركة مسجلة يعرفها الصغير قبل الكبير، إذ تربت على منتجاتها أجيال. ومع قرارات التأميم في مطلع الستينيات من القرن الماضي، بدأت قصة «نادلر» في الأفول.. مع كر السنين، وهاجر مَن هاجر من العائلة.. تاركاً لنا سيدة فاضلة، بنكهة وطنية مُخلِصة لاذعة، شديدة الغيرة على وطنها مصر. 

حينما علمت برحيل «ليا».. ذرفت دمعتين، واحدة على «ليا» الصديقة التي سوف أفتقد كثيراً أحاديثها الممتعة، وألَقها الذهني، ودمعة أخرى على «ليا نادلر».. كمواطنة مصرية عظيمة، واجهة مشرفة لبلدها، هي آخر مَن تبقى من نتاج الثقافة المصرية الكوزموبوليتانية الحيوية، فلنا ولكل ذويها ومحبيها وأصدقائها – وبصفة خاصة منير وليلى – الصبر والسلوان. 

هل ما زلنا «بندرسها.. بندرسها»؟ 

منذ نحو عشرين عاماً، وقبل افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، طلب «مبارك» من وزير الثقافة.. الفنان «فاروق حسني»، أن يغير تقليد الافتتاح المتبع كل عام، وذلك بأن يدعو أربعين فرداً فقط، ممثلين للنخب الثقافية المختلفة، ليلتقي بهم في مقره الرئاسي بقصر الاتحادية، على أن يقوم رئيس الوزراء بدلاً منه بافتتاح المعرض في اليوم التالي للقاء. ويبدو أن الرئيس، بعد مضي نحو ربع القرن من الجلوس على عرش مصر، قد «زهق» وانتابه الملل من الكتب والكُتاب، والثقافة والمثقفين، فقرر تكريس أقل وقت ممكن للقاء أقل عدد منهم. 

دفعني الفضول الشديد إلى تلبية الدعوة – مرتين في عامين متتالين – مستمتعاً في المرتين بصحبة الكاتب، نقيب الصحفيين الأسبق، الأستاذ «كامل زهيري»، في سيارته، والاستماع إلى طرائفه وتعليقاته.  

في اللقاء الثاني، تحدَّث الرئيس إلينا، وأجاب عن أسئلة بعض الحضور، ثم اعتذر عن عدم استكمال الجلسة، إذ كان عليه أن يذهب إلى المطار لاستقبال أحد ضيوف مصر. وفي طريقه للخروج من القاعة، أخذ يصافح الحضور المتحلقين حول مائدة الاجتماع، وحينما وصل إليَّ حيث كنت أقف، استأذنته في سؤالين، فأذن لي، فدار الحوار الآتي حرفياً: 

ـ سيادتك قلت في كلمتك دلوقتي: «أنا يهمني المواطن المصري.. ما يهمنيش دينه.. مسلم.. مسيحي..»، فقاطعني الرئيس قائلًا: «طبعاً.. عندك شك؟»، فأجبت: «لا يا افندم، بس ليه البطاقة الشخصية بيتكتب فيها مسيحي ومسلم؟». 

سكت الرئيس برهة، وفيها أمَّن اثنان من المتحلقين حوله على كلامي، هما «فاروق حسني» والكاتب الراحل الأستاذ «إبراهيم سعدة»، رئيس مجلس إدارة وتحرير جريدة «الأخبار». وهنا أجاب الرئيس: «بندرسها.. بندرسها»، ثم فوجئت به يأخذ يدي تحت إبطه، ويواصل السير، بينما يحكي لي عن زميل عربي كان معه بمطار الحبانية.. حكاية فحواها أنه لا ينخدع – على حد قوله – «بالعيال اللي ماسكين سبح.. ويقولك قال الله وقال الرسول، (ولنا حديث آخر، في مقال آخر، نستكمل فيه جوانب من لقاءات الرئيس). ومضت نحو خمس سنوات بعد هذا اللقاء – قبل أن يغادر «مبارك» الرئاسة – ومضى نحو عقدين من الزمان على تلك الدراسة المزعومة. 

(بندرسها.. بندرسها)، ولم يحدث شيء. ظلت – وما زالت – خانة الديانة متربعة في بطاقة الهوية المصرية، تفقأ أعيننا وأعين مفهوم دولة «المواطنة». 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة