أمينة خيري
لم أقرأ روايات منذ سنوات طويلة. ضغط العمل والكتابة، والانغماس الكلي في أحداث وحوادث الوطن والكوكب.. لا سيما في الـ15 عاماً الأخيرة، وقضاء ساعات الراحة في التجوال بين قنوات إخبارية، فيتحوَّل الترفيه إلى ثقل إضافي.. يسلب العقل والقلب القدرة على متابعة رواية، إذ يكفينا ما نحن فيه من روايات.
هذا الأسبوع، حدث ما لم يكن في الحسبان. رواية مختلفة وقعت بين يدي، فهي ليست أحداثاً من عوالم خيالية لا علاقة لها بالواقع، ولا هي توثيق تسجيلى لحقبة بعينها أو طبقة دون غيرها، أو أحداث يمكن وضعها تحت بند «حقيقية»، لكنها خليط من كل ما سبق.. في قالب أدبي هو السهل الممتنع، وسياق سردي يُشعرك أنك تعرف الشخصيات وعاصرت الأحداث.
«زهرة النار».. للكاتب والأديب محمد سلماوى – صاحب القلم المتفرد، والمواقف والأفكار.. المتسقة مع نفسها ومع صاحبها. والأهم من ذلك، المتسقة مع قيم الإنسانية.. في زمن عزَّت تلك القيم كثيراً – أعادتني لعالم الرواية.
هي رواية مختلفة. تبدو للوهلة الأولى أنها قصة حب، لكنه حب من نوع مختلف، يتداخل ويتشابك فيه العقل بالقلب.. بالصراع السياسي، بالاحتقان الطبقي، بالحراك الاجتماعي، بمحاولات غير مفتعلة.. لهدم أصنام اجتماعية وثقافية، تسيطر على الأدمغة وتهمين على الأفئدة، دون أن يدري أحد السبب.
قصة الحب التي تنشأ بين السيدة الخمسينية «عالية» – صاحبة محل الأنتيكات – و«خالد».. الشاب العشريني. التفوه بمثل هذه الجملة في مجتمعنا.. كفيل بتفجير ينابيع الرفض وطاقات التنمر والوصم، وربما السب واللعن، فكيف بامرأة «أنتيكة».. أن تسمح لنفسها بمجرد التفكير في حب وعواطف، والذي منه؟ وما بالك إذا كان الطرف الآخر شاباً، ويصغرها بسنوات؟
بالطبع، لو كان الوضع معكوساً، والرجل خمسيني والمرأة عشرينية، فإن عبارات التأييد ومشاعر الإعجاب والفخر، بل والحسد، تلاحقه في علاقته العاطفية.
محل الأنتيكات – الذي تملكه «عالية» – يتحول إلى طاقة.. فيها الرمز، وفيها الصراع، وفيها الثقافة، وفيها المجتمع، وفيها أيضاً.. شد وجذب، بين تاريخ وثقافة وذاكرة وذكريات من جهة، وبين حاضر بثقافته المختلفة، ومجريات تنبئ بتركيبة مختلفة تماماً من الأولويات والقيم، وكذلك مشهد سياسي وطبقي ومادي مختلف تماماً عما عرفته البشرية.
وبين هذا وذاك، يمضي محمد سلماوي.. متبحراً في إشكالية قصة الحب الصادمة لتوقعات المجتمع، وأزمة الأجيال الشابة.. الباحثة عن موطئ قدم سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو ثقافية، تختلف عن أقدام الأكبر سناً.. ممن خربوا الكوكب أو كادوا. وفي خضمِّ كل ذلك، يجد القارئ نفسه متبحراً في علاقات متشابكة، ومعلومات متناثرة ولمحات من التاريخ، وومضات من الفنون، وسياقات من مشاهد سياسية متأزمة، وتركيبات اجتماعية وثقافية.. صارت كالأمراض المزمنة. كل هذا في لوحة متناسقة، رغم تنافر المكونات، وسرد أدبي خيالي بالغ الواقعية.
«زهرة النار» ليست مجرد زهرة نادرة، لا تتفتَّح إلا حين تحيطها النيران. هي قصة نادرة.. في تشابكاتها واشتباكاتها، التي لا يفك عقدها إلا محمد سلماوي في لوحة أدبية نادرة.
نقلاً عن «المصري اليوم»