زياد بهاء الدين
حتى وقت قريب، كان يجري العرف في المناقشات الاقتصادية التقليدية.. على تصنيف المعلقين والمشاركين فيها إلى يمين ويسار، وبينهما وسط يتأرجح نحو هذا الاتجاه أو ذاك. والتصنيفات المذكورة كانت مفيدة.. للتعرف على الاتجاه العام لصاحب الرأي، واستنتاج السياسات التي يساندها.
أما اليوم، حينما أتابع كتابات وتعليقات الاقتصاديين المصريين والمعلقين – المنتمين إلى هذه المدارس الفكرية – فلا تستوقفني الاختلافات بينهم، بل المساحة المشتركة الكبيرة التي يتفقون عليها، وتمثل القاسم المشترك بينهم.. في رسم ملامح برنامج الإصلاح المطلوب لإخراج اقتصادنا القومي من عثرته، ووضعه على المسار السليم. هذا ليس تبسيطاً للأمور ولا تجاهلاً للخلافات الفكرية، بل تأكيداً لأهمية هذه المساحة المشتركة.. التي تعلو على الخلافات الأيديولوجية والفنية، خاصة في أوقات الأزمات؛ التي يلزم فيها التوافق على برنامج إنقاذ وطني.
دعوني أضرب لكم بعض الأمثلة – لما أعتبره نقاط توافق – لا أتصور أن تكون محل خلاف كبير: هل يختلف أحد مثلاً على ضرورة ضبط دور مؤسسات الدولة في النشاط الاقتصادي، وخضوعها لقواعد تنافسية سليمة؟ وهل يختلف أحد على ضرورة احترام الدولة للعقود التي تبرمها؟ هل هناك من يعترض على مبدأ وحدة الموازنة.. ولا يحب أن يراه مطبقاً يوماً ما؟ هل هناك خلاف على ضرورة العمل على نمو القطاع الخاص الوطني، وتشجيع الاستثمار الأجنبي.. وفقاً للضوابط التي تحقق الصالح العام؟ هل يوجد من لا يهمه ارتفاع الحصيلة الضريبية.. بزيادة التحصيل من القطاعات والأنشطة المتهربة؟ هل لدينا شك في أن مستوى الدين العام.. بلغ معدلات مقلقة؛ بما يعرقل جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ أو أن هناك حاجة لتوجيه الإنفاق العام نحو التعليم والصحة، وما يبني الإنسان المصري.. بدلاً من المدن الجديدة والعمارات الشاهقة؟ هل هناك أي خلاف على أن هناك فجوة اجتماعية هائلة.. وآخذة في الاتساع، وأن مشكلة غالبية الشعب المصري اليوم هي الغلاء، وعدم القدرة على توفير متطلبات العيش الكريم؟
… وأن الخروج من الأزمة عموماً، لن يكون ببيع الأراضي والأصول، بل بزيادة الإنتاج والتشغيل والتصدير، مع توفير شبكة حماية اجتماعية ملائمة؟
ما سبق ليس توافق أساتذتنا الاقتصاديين المصريين فقط، بل أيضا ما يتفق عليه ممثلو مجتمع الأعمال، والسياسيون والكتاب، وجهات الخبرة الدولية، ومسؤولون سابقون، وحتى بعض المسؤولين الحاليين. وقد عبروا عن هذا التوافق.. في مقالات، وحوارات تلفزيونية، وتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي، ولقاءات – بعضها معلن وبعضها مغلق – مع كبار المسؤولين الحكوميين. هناك بالفعل أجندة وطنية للإصلاح الاقتصادي، وهي معروفة ومتفق على ملامحها الرئيسية، ولم يعد هناك جديد.. مما يمكن إضافته إليها.
السؤال الذي ينبغي أن يشغلنا إذن، ليس «ما هو برنامج الإصلاح الاقتصادي»، بل «ما الذي يعيق الأخذ به، وتنفيذه.. ولو بشكل تدريجي». وهذا يقودني لعنوان المقال.
طالما أن مكونات وعناصر البرنامج الوطني للإصلاح الاقتصادي معروفة، ومتفق عليها، ولا يوجد خلاف.. إلا ربما في تفاصيلها التنفيذية.
ولكنها – مع ذلك – لا تجد صدى في الواقع، ولا تتقدم خطوة.. إلا لتعود خطوتين، فإن هذا يعني نتيجة واحدة: أن المشكلة ليست اقتصادية بل سياسية. وما أقصده بالسياسة.. هو آليات صنع القرار، وطبيعة المشاركين في رسم السياسات، وكيفية دراسة وتقييم البدائل، وطبيعة المصالح المرتبطة بها، ومدى إتاحة المعلومات، والمناخ العام.
مزيد من الأسئلة، لعل الفرصة تتاح لتناولها الأسبوع القادم.
نقلاً عن «المصري اليوم»