Times of Egypt

لماذا غاب التضامن الشعبي العربي مع فلسطين في نكبة العرب الثالثة؟

M.Adam
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد

لا شك أن مظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني – خارج الوطن العربي، بعد «طوفان الأقصى» – فاقت بكثير.. كل ما جرى كتعبير علني عن هذا التضامن داخل الوطن العربي. صحيح كانت هناك تظاهرات في المغرب واليمن والعراق، وشارك كثيرون في التبرع بالمساعدات الغذائية والأدوية والملابس.. لصالح ضحايا الحرب الإسرائيلية في غزة، ولكن يبقى كل ذلك أقل مما كان متوقعًا.. في ظل نكبة عربية ثالثة تجاوزت – بامتدادها إلى كل الشرق الأوسط – كل ما جرى من قبل في 1948؛ باحتلال إسرائيل قسمًا من أراضي فلسطين، أو فى 1967.. بامتداد الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ أخرى في مصر وسوريا، فضلًا عما تبقى من فلسطين في الضفة الغربية. ولذلك يطرح هذا المقال.. بعض الاجتهادات في تفسير محدودية هذا التضامن.

مسؤولية الشعوب:

طبعاً هناك بعض الإجابات الجاهزة عن هذا السؤال، منها مثلًا.. أن الحكومات العربية لا ترحب – بل وتقيِّد – حريات التجمع السلمي، وقبلها حريات الرأي والتعبير.. بكل الوسائل. ولا شك في صحة هذه الإجابة، ولكنها ليست مقنعة؛ فهناك قدر من حرية التجمع في بعض الدول العربية.. مثل المغرب وتونس ولبنان. ولكن من ناحية أخرى، فإن بشاعة الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، كان يُفترض أن تدفع المواطنين العرب للخروج إلى الشوارع.. متحدين هذه القيود، مثلما حدث في مناسبات سابقة، عندما حاول أحد الصهاينة حرق المسجد الأقصى في أغسطس 1969، واندلعت مظاهرات عارمة أعقبها عقد أول مؤتمر قمة إسلامي في الرباط بالمغرب.

الغياب شبه الكامل لمظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني – مع تجاوز آلة الحرب الإسرائيلية كل قواعد القانون الدولي باستهدافها النساء والأطفال، والكنائس والمساجد، والمدارس والجامعات، والمستشفيات ودور السكن بكل أنواعها من أبراج سكنية ومخيمات – لا يمكن أن يكون سببه الوحيد هو تلك القيود التي تفرضها بعض الحكومات العربية.. على حريات التجمع والتنظيم.

تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في الوعي العربي:

ومع استثناء تلك الشعوب العربية – التي تعاني من انقسامات.. تكاد تصل إلى درجة الحرب الأهلية في السودان وليبيا، أو من انهيار سلطة الحكومة.. بسبب التدخل الأجنبي وسقوطها؛ مثلما جرى في سوريا – يمكن القول إن مكانة القضية الفلسطينية قد تراجعت كثيراً.. في اهتمامات الشعوب العربية.. لأسباب متعددة؛ منها انشغال الحكومات العربية بمشروعات قطرية، لا تأخذ البُعد العربي في الحسبان. ومنها تراجع الحركات السياسية الجامعة في الوطن العربي؛ فسواء تعلق الأمر ببعض الدول العربية، فلكل من قادة هذه الدول مشروعه لنهضة دولته، ولا مكان للتضامن مع الشعب الفلسطيني في هذا المشروع. ومما عزز من ذلك، أن خطاب هؤلاء القادة لمواطنيهم.. يعزز من الهوية القطرية، دون ربطها بأي هوية أخرى جامعة؛ فالخطاب السياسي المسيطر يؤكد على الهوية القُطرية. 

ويترافق ذلك، مع انحسار التأييد للحركات السياسية الجامعة – العابرة للأقطار – مثل الدعوة القومية العربية أو الإسلام السياسي. لقد سقطت النظم التي كانت ترفع شعارات الوحدة العربية، بل وكادت الأحزاب التي تبنتها.. تختفي من المسرح السياسي في بلدانها، مثل حزب البعث في العراق، وبعد ذلك في سوريا، ولا يكاد يُسمع له صوت في بلدان أخرى.. مثل لبنان أو الأردن. وجاء تراجع دعوة القومية العربية تدريجيًا بعد الهزيمة العربية في حرب يونيو 1967.. التي أدت إلى النكبة العربية الثانية – باحتلال إسرائيل لأراضٍ عربية خارج فلسطين – وهي الحرب التي واجهت فيها إسرائيل نظامين يرفعان شعارات القومية العربية.. في مصر وسوريا.

ومع أن تراجع التيار القومي العربي، صاحبه صعود تيارات الإسلام السياسي – التي سجلت مكاسب انتخابية واسعة في بعض الدول العربية مثل الأردن، وشاركت أو تولت الحكم لفترات قصيرة في مصر وتونس والمغرب، أو وصلت إليه بالانقلاب العسكري.. كما كان حال السودان في الفترة 1989-2019 – إلا أن أداء الإسلاميين في السلطة، لم يحقق آمال من انتخبوهم، مما أعطى الفرصة لمنافسيهم لإزاحتهم.. بالقوة.

كل من الدعوة القومية العربية، وحركات الإسلام السياسي.. أعطتا للقضية الفلسطينية مكانة بارزة في خطابهما؛ فبالنسبة للأولى، إسرائيل هي أداة الاستعمار الغربي.. للحيلولة دون تحقيق التقدم أو الوحدة في العالم العربي. وبالنسبة للثانية، هي عدو للأمة الإسلامية. 

انحسار التأييد لكل من هذين التيارين.. ترافق مع تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وصعود تيارات تشدد على الانتماءات الإقليمية – الخليجية على سبيل المثال – أو حتى التيارات الإثنية/دون القطرية؛ مثل الشيعية والكردية والسنية في العراق، أو المارونية في لبنان. وفي ظل هذه الظروف – بطبيعة الحال – لم يعد هناك من قادة عرب يتبنون دعوة القومية العربية؛ كما كان حال قادة «البعث» في سوريا والعراق، وجمال عبد الناصر في مصر، ومعمر القذافي لفترة في ليبيا.

«‎طوفان الأقصى» مشكلة للرأي العام العربي:

ومن ناحية أخرى، فعلى الرغم من التأييد – بل والإعجاب – بقدرة الفلسطينيين فى غزة.. على ما بدا أنه إسقاط لنظرية الأمن الإسرائيلى؛ بعجز أجهزة الدولة العبرية.. عن التنبؤ بما كانت حماس تخطط له، وخصوصًا بعدما أدى انضمام كل من حزب الله فى لبنان، وأنصار الله فى اليمن.. إلى رؤية توسيع نطاق المواجهة مع إسرائيل، وتكبيدها خسائر غير مسبوقة، وإجبار المواطنين الإسرائيليين على اللجوء إلى المخابئ.. توقيًا لصواريخ حزب الله. إلا أن حجم الدمار الذى ألحقه الإسرائيليون بغزة، وتصاعد هجمات المستوطنين الإسرائيليين فى الضفة الغربية، ثم الضربات التى أطاحت بقيادات حماس، وحزب الله، والحوثيين.. أدى كل ذلك إلى تراجع التأييد لاستمرار المقاومة المسلحة فى البلدان الثلاث، بل واعتقاد البعض أن طوفان الأقصى.. هيّأ للحكومة الإسرائيلية الفرصة للإجهاز على محور المقاومة للمشروع الصهيونى فى الشرق الأوسط؛ بما فى ذلك إيران. بل والمضى قدمًا فى تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى، الذى يتجاوز حتى حدود فلسطين التاريخية.. ليضم أراضٍ فى كل من سوريا ولبنان.

هكذا فتر الحماس للمقاومة المسلحة.. بعد أن اتضح أنها انتهت بخسارات استراتيجية للفلسطينيين وأنصارهم فى الشرق الأوسط، لا يعرف أحد كيف سيخرجون منها فى المستقبل.

«طوفان الأقصى» مصدر حرج للحكومات العربية:

وأخيراً، فقد شكَّل «طوفان الأقصى» حرجاً للحكومات العربية. جاء «طوفان الأقصى» في أكتوبر 2023، والحكومة الأمريكية منشغلة.. بحثِّ بعض الحكومات العربية على اتخاذ خطوات جديدة على طريق تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، والانتقال من التطبيع المستتر.. إلى التطبيع العلني. وتوقف الأمر على مدى استعداد الحكومة الأمريكية.. لقبول طلبات هذه الدول العربية.. كثمن لهذا التطبيع؛ ومنها اعتبارها حليفاً مثل دول حلف الأطلنطى، ومساعدة الولايات المتحدة لها على تطوير برنامج سلمي.. لاستخدام الطاقة النووية.

ولكن استمرار العدوان الإسرائيلي واتساع نطاق المواجهة ليشمل كلًا من حزب الله وأنصار الله في اليمن جعل من المحرج للسعودية – مثلاً – قبول التطبيع في هذه الظروف. ولكن كون محور المقاومة كله هو من تصفهم السعودية وحكومات الخليج بأنهم حلفاء لإيران، جعل هذه الحكومات تصر على أن تسوية الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل يجب أن تشمل كذلك نزع سلاح «حماس» وإنهاء أي دور سياسي لها.

كذلك تنظر حكومات عربية إلى «حماس» باعتبارها فصيلًا من فصائل الإسلام السياسي التي تكافحها. صحيح أن تلك هي مواقف بعض الحكومات العربية، ولكن هذه المواقف تسهم في تشكيل الرأي العام العربي، خصوصًا أن هذه المواقف تجد صدى لها في التغطية الإعلامية لما يجري على أرض فلسطين، ولذلك بدت بعض القنوات التليفزيونية العربية، في تغطيتها، أقرب إلى عكس وجهة النظر الإسرائيلية منها إلى تغطية محايدة لا تنحاز لأي من طرفي الصراع.

أهمية الرأي العام العربي في مسار القضية الفلسطينية:

تلك – في رأي الكاتب – بعض أسباب غياب مظاهر التعاطف العلني مع الشعب الفلسطيني.. من جانب الرأي العام العربي، مقارنة بالاحتجاجات الواسعة في معظم أنحاء العالم.. على الوحشية الإسرائيلية. غياب هذه المظاهر في الوقت الحاضر، يطلق يد الحكومات العربية.. في الاستجابة للشروط التي تطرحها خطة الرئيس الأمريكي.. كما تفسرها إسرائيل؛ وهي تراجع عما أقرته الحكومات العربية من قبل.. كأسس لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وهي جلاء إسرائيل عن كل الأراضي العربية المحتلة، وتمتع الشعب الفلسطيني بحقه في تقرير المصير.. وفقاً لصيغة الدولتين.

ويحدث هذا التراجع.. في الوقت الذي تتنكر فيه إسرائيل – عملًا وقولًا – لاحترام التزاماتها بوقف إطلاق النار في غزة ولبنان، ومُضيِّها لاحتلال أراضٍ سورية.. رغم استعداد الحكومة السورية لإبرام معاهدة صلح معها، وتكرار تصريح قادتها بأن إسرائيل الكبرى.. تشمل أراضي في سوريا والأردن ولبنان ومصر والسعودية.

تضامن الشعوب العربية مع الشعب الفلسطيني.. هو وقوف في وجه أخطار تهدد الأمن القُطري.. لعديد من الدول العربية، ومن شأنه أن يقوِّي يد الحكومات العربية.. وهي تتفاوض مع الإدارة الأمريكية، حول تطبيق خطة تعد – على الأقل – بجلاء القوات الإسرائيلية عن معظم غزة، والانطلاق إلى مسار قد ينتهي بإقامة دولة فلسطينية.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة