د. نيفين مسعد
يواصل مقال هذا الأسبوع.. التعرُّض للأسئلة التي أثارها العدوان الإسرائيلي على إيران، وأحد الأسئلة – التي تكرر إثارتها، ويهتم بها مقال اليوم – هو عن السبب في اختلاف السلوك الأمريكي.. حيال كلٍّ من حربي إيران وغزة؛ فعندما استخدمت الولايات المتحدة – في الرابع من يونيو الماضي – حق الڤيتو ضد مشروع القرار.. الذي توافق عليه كل أعضاء مجلس الأمن، للوقف الدائم والفوري وغير المشروط لإطلاق النار في قطاع غزة؛ عُدَّ هذا الڤيتو – الأول بالنسبة لإدارة ترامب، والخامس بالنسبة للولايات المتحدة منذ بداية الحرب قبل ثمانية عشر شهراً – منذ مطلع شهر يوليو الحالي، بدأ حديث ترامب عن وقف إطلاق النار في غزة.. يتخذ طابعاً جدياً، وتكررت التصريحات التي أدلى بها.. للإشارة لقرب التوصل إلى صفقة لإطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب.
وفي المقابل، أعلن ترامب انتهاء الحرب الإسرائيلية-الإيرانية.. بعد اثني عشر يوماً من اندلاعها، وهنأ طرفيها.. لامتلاكهما القدرة والشجاعة والذكاء على إنهائها، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة منعت حرباً كانت ستمتد سنوات.. قاصداً أنه لو تُركت هذه الحرب لطرفيها، ولم تقم الولايات المتحدة بتوجيه ضربات عنيفة للمنشآت النووية الإيرانية، لما كان أيهما قادراً على الحسم.
الإجابة السهلة.. لتفسير اختلاف سلوك إدارة ترامب؛ بسرعة إعلانها وقف إطلاق النار في إيران، ومماطلتها في العمل على وقف إطلاق النار في غزة.. (هي أن الحرب الإسرائيلية) الأمريكية على إيران، قد حققت أهدافها بنجاح في مدى زمني قصير، بحيث أمكن تدمير برنامجها النووي، وتقويض قدراتها الصاروخية، ولم يعد هناك مبرر لاستمرار الحرب.
ومع تحقق الأهداف بنجاح، أصبح الطريق ممهداً للضغط على «حماس».. من أجل عقد صفقة مناسبة مع إسرائيل. تفسر هذه الإجابة – من وجهة نظر أصحابها – التحول في السلوك الأمريكي.. ما بين رفض وقف إطلاق النار في قطاع غزة يوم 4 يونيو – أي قبل حرب إيران – وبين الترويج له.. بعدها بأيام قليلة. لكن مثل هذه الإجابة.. تم تفنيدها في مقال الأسبوع الماضي، على أساس أنه لا يمكن تقديم أي تحليل موضوعي.. للحجم الحقيقي للخسائر الإيرانية. والأهم من ذلك، هو أن حركة حماس نفذت – بعد انتهاء حرب إيران – سلسلة من أنجح عملياتها العسكرية.. ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ ما يعني فك العلاقة الارتباطية.. بين نتائج حرب إيران، ومسار حرب غزة.
على ضوء ما سبق، يحتاج تفسير اختلاف السلوك الأمريكي حيال الحربين، إلى الالتفات لمجموعة أخرى من العوامل؛ أحدها هو أن الولايات المتحدة.. تعتبر غزة قضية إسرائيلية، تتصرف فيها إسرائيل كيفما شاءت؛ طالما ارتبط المصير السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو باستمرار حرب غزة، وتعمد بالتالي إفشال كل جهود الوساطة، فإن إدارة بايدن – ومن بعدها إدارة ترامب – عملت على مسايرته.. بتكرار استخدام حق الڤيتو. ومؤخراً.. باستحداث ترامب آلية جهنمية لتوزيع المساعدات، تمتص – في الظاهر – الاحتجاج على تجويع الفلسطينيين، وتهيئ – في واقع الباطن! – لقتل المزيد منهم.
وأن تكون إدارة ترامب قد غيرت موقفها.. من استمرار الحرب في غزة، فهذا لأنه بدا واضحاً أن القضاء على حماس غير ممكن، وأن الحل العسكري لن يؤدي لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. أما مع إيران، فإن الموقف مختلف؛ فالإدارات الأمريكية المتعاقبة تتعامل مع البرنامج النووي الإيراني.. بوصفه يمثل تهديداً للسلم والأمن الدوليين عموماً، وللأمن القومي الأمريكي خصوصاً. أي أن الموضوع يتعدى كونه مجرد تهديد للأمن القومي الإسرائيلي. وإيران – منذ اندلاع ثورتها – تعتبر إسرائيل.. مجرد وكيل للولايات المتحدة. ومع كونها تشيطن كلتا الدولتين، إلا أنها تخص الولايات المتحدة بصفة «الشيطان الأكبر».
وعندما تتأزم علاقة إيران مع إسرائيل، يرد حلفاء إيران.. بمهاجمة المصالح الأمريكية في المنطقة. وكان هذا هو الغطاء السياسي.. للتدخل الأمريكي في حرب إيران. وسواء وقع التدخل.. لأن إسرائيل ضغطت على إدارة ترامب لتفعل، بسبب ارتفاع خسائرها. أو لأن الإدارة الأمريكية نفسها.. قدرت خطورة استمرار الحرب – في منطقة بالغة الأهمية الإستراتيجية – فقررت التدخل لتحسمها، فإن النتيجة واحدة.. وهي أن التدخل الأمريكي كان مخططاً له، أن يكون تدخلاً جراحياً ومحدداً.
يقودنا ذلك لوزن الجوار الخليجي لإيران، وشركاء إيران من القوى الكبرى.. في التأثير على قرار الولايات المتحدة بإنهاء الحرب. وهذه نقطة بالغة الأهمية.. في التمييز بين وضع غزة ووضع إيران. وذلك لأن الحرب الإسرائيلية على غزة، تمثل عنصراً أساسياً لعدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط.. هذا بالتأكيد، لكنها لا تمثل – على الأقل في الأمد القصير – تهديداً مباشراً لدول الخليج العربية، على العكس من حرب إيران.. المفتوحة على كل سيناريوهات التصعيد.
ولئن كان استهداف قاعدة العديد في قطر.. لم يؤد لنتائج ذات بال، إلا أنه كان بمثابة بروفة لما يمكن أن تؤدي إليه هذه الحرب.. في حال استمرت. من جهة أخرى، فمع البرود الذي ميز الموقفين الروسي والصيني.. تجاه حرب إيران، إلا أنه لم يكن من المتصور أن تقف هاتان الدولتان موقف المتفرج، في حال طال أمد الحرب، وتطورت إلى إلحاق هزيمة كاملة بإيران؛ فهناك شبكة من المصالح التي تربط بين الدول الثلاث، وهناك دور تلعبه إيران (وبطبيعة الحال تركيا أيضاً) في الحفاظ على نوع من التوازن الإستراتيجي.. مع النفوذ الإسرائيلي/الأمريكي في الشرق الأوسط. يضاف إلى ذلك كله، حساسية السوق النفطية.. لأي توترات يمكن أن تشهدها منطقة الخليج.. في وقت أصلاً تعاني فيه هذه السوق من تداعيات الحرب الأوكرانية.
لم يكن من الوارد إذن.. بالنسبة لإسرائيل، ولا بالنسبة للولايات المتحدة، أن تتحول الحرب مع إيران إلى حرب استنزاف ممتدة – على غرار ما يحدث في قطاع غزة – فالسياقان الإقليمي والدولي مختلفان تماماً، كما أنه لا مقارنة بين القدرات العسكرية.. لكلٍ من حماس وإيران؛ فمن يتأمل حذر إسرائيل، وتريثها، وتجهيزها العسكري قبل إعلان الحرب على إيران، يدرك وعيها بخطورة الإقدام على هذه الخطوة، وهو ما ثبت لها بالفعل.. على أرض الواقع. فما بالنا باستمرارها لشهور؟
بل إن تغريدة ترامب في اليوم التالي للحرب مباشرةً.. كانت واضحة جداً، في إظهار تعامله معها كحرب قصيرة المدى؛ إذ قال إنه يشعر (مع الرئيس بوتين)، بأن هذه الحرب يجب أن تنتهي.
نقلاً عن «الأهرام«