نيفين مسعد..
قدّمت لنا الدراما المصرية شخصية الدبلوماسي.. في قالب شديد اللطف والطرافة، فبمجرد أن قرّرت أن أكتب هذا المقال قفزت إلى ذهني على الفور صورة فؤاد المهندس.. في فيلم «جناب السفير».
في هذا الفيلم قام المهندس بدور الدوبلير لسفير جمهورية فيحان في مصر.. حتى يتيح لجهاز المخابرات أن يتعقّب المتآمرين على السفير، الذين كانوا يريدون قتله والتخلّص منه. ارتدى فؤاد المهندس بدلة السفير المثقلة بالنياشين والأوسمة، وراح يغنِّي بدمه الشربات «جُدور رقبتي اتودِّكت ع الإتيكيت.. تِلوح يمين تِلوح شمال لما اتهريت، غرقان لشوشتي في الاحترام لما استويت»، يريد أن يصوِّر لنا معاناة رجال الخارجية من البروتوكول.. ولا أقول من التكلُّف أحياناً، فأنا لا أقدر على زعل أصدقائي في السلك الدبلوماسي.
فكرة التآمر على السفير كانت قد وردت قبل ذلك بعدَّة سنوات.. في فيلم «صاحب الجلالة»، عندما قام فريد شوقي بدور الدوبلير للسلطان مارينجوس الأول (سلطان بورينجا).. الذي كان قد جاء في زيارة سياحية لمصر، فإذا بأعدائه السياسيين يعدُّون العدَّة للتخلُّص منه أيضاً. أما السفير الإسرائيلي ديڤيد كوهين – الذي جسَّد شخصيته لطفي لبيب في فيلم «السفارة في العمارة» – فإنه هو نفسه كان يتآمر على جاره شريف خيري.. رمز الصمود، ليستولي على شقته المجاورة لشقته تماماً، ويفتح الشقتين على بعض.
هذا التعامل السينمائي اللطيف مع شخصية الدبلوماسي مقبول جداً، فالإبداع يتنفَّس حريَّة، وصحيح أن بعض الفن الرفيع.. يوجد في ظلِّ الأنظمة السلطوية، لكن هذا يمثِّل الاستثناء، أما القاعدة فهي أن الفن ليُضحك ويسخَر وينقُد لا بد أن يتحرَّك في مساحة من الحرية، ولابد أن يكون أمامه براح.
لكن عالم الدبلوماسية يختلف عن ذلك تماماً، لأن الدبلوماسية بطبيعتها فيها تحفُّظ وجديَّة وأقنعة وبروتوكول ومسافة وتدقيق وألقاب ومقامات وشوكة وسكينة وملابس رسمية. في الدبلوماسية كل شيء بحساب، وبالتالي فإن علاقة الدبلوماسية بالكوميديا ليست طيبة، ومن المؤكَّد أنها ليست حميمة، نعم هناك دبلوماسيون أدباء لكنه الأدب الرصين، أما الأدب الساخر فمؤجَّل لما بعد التقاعد. ولذلك نجد مثلاً أن شخصاً مثل العظيم سليمان نجيب.. عندما أراد أن يلتحق بالفن، كان عليه أن يستقيل من السلك الدبلوماسي، على الرغم من أنه وصل إلى أن يكون قنصل مصر في إسطنبول.
أصلاً، لم يكن من المعقول أن يظل سليمان نجيب.. يعمل في الخارجية، ويقبل في الوقت نفسه أن يسخر منه نجيب الريحاني.. في فيلم «غزل البنات»، ويصفه بأنه ضليع في قواعد الجرجير وأصول البقدونس والفجل الرومي. ولو لم يتقدَّم باشا السينما المصرية باستقالته من السلك الدبلوماسي، لكان قد أقيل.. قبل أن يضع قدمه داخل الاستوديو.
المقدمة الطويلة السابقة عن العلاقة بين الكوميديا والدبلوماسية وكيف أنها علاقة تسير في اتجاه واحد.. لا في اتجاهين، الغرض منها التمهيد لدهشتي.. عندما قرأت المقال السياسي الذي كتبه الأمير عثمان في صحيفة «وورلد كرانش». في هذا المقال، انتقد عثمان الدبلوماسية المصرية، لأنها تُميت بالبيروقراطية الشديدة.. كل المبادرات التي لا تخدم مصالح الدولة (وهل هناك دولة في العالم تشجِّع المبادرات التي تهدِّد مصالحها؟)، وشبَّه الكاتب هذه الدبلوماسية المصرية بدبلوماسية «مدام عفاف». ومدام عفاف – التي تمارس عملها من مكتبها في الدور الرابع – هي شخصية نسائية ابتكرها المصريون.. للسخرية من بطء الإجراءات البيروقراطية في المؤسسات الحكومية. والذي أدهشني، أن المؤلف استدعى شخصية فكاهية كنت أظن أنها غير معروفة.. إلا على المستوى المصري، واعتبر أن أسلوبها في العمل، هو نفس أسلوب الدبلوماسية المصرية في التسويف والمماطلة، دون الاعتراض الصريح.
وضرب المؤلف عدة أمثلة على دبلوماسية مدام عفاف هذه؛ منها تعطيل مصر مبادرة الناتو العربي، التي اقترحها ترامب في دورته الأولى.. للاصطفاف في وجه إيران/الإرهاب (لا يدري سعادته أن رفض الأحلاف العسكرية، سياسة مصرية ثابتة.. من قبل أن تولد مدام عفاف). أما الجانب الإيجابي في هذا المقال النقدي العجيب، فهو أنه جعل رأس مدام عفاف.. برأس هنري كيسنجر – أبرز وزراء الخارجية الأمريكيين – بحيث أنه صار بالإمكان أن نتحدَّث عن دبلوماسية مدام عفاف.. تماماً كما نتحدّث عن دبلوماسية هنرى كيسنجر.
ومع ذلك، فطالما أراد المؤلف أن يصك نوعاً جديداً من الدبلوماسية.. مستوحى من الكوميديا المصرية، فإننا نحب أن نضيف إلى معلوماته الفنية، أن مدام عفاف ليست وحدها في الميدان، فهناك أيضاً دبلوماسية مدام سنية الموظفة.. بإدارة تسجيل الاختراعات الحديثة – في مسلسل «راجل وست ستات» – التي تقدَّم لها أحد المواطنين باختراع الآنسر ماشين، وكان اكتشافاً مذهلاً في البداية. لكن – في ظل التعقيدات البيروقراطية – لم يأتِ الدور على صاحب الاختراع.. رغم مرور سنين طويلة، فقدت خلالها الآنسر ماشين قيمتها.
كما أن لدينا أيضاً دبلوماسية ذلك الموظف – المسؤول في مجمَّع مديريات ومصالح محافظة الجيزة – في فيلم «كراكون في الشارع»؛ الذي لم يؤشر بالموافقة على طلب أحد المواطنين.. للحصول على شقة من شقق المحافظة، رغم مضي 19 عاماً بالتمام والكمال على تاريخ الطلب، أحيل خلالها المواطن للتقاعد.
مع شعب مشهور بخفَّة الظل.. كالشعب المصري، يسخر من أي شيء وكل شيء، ويتهكم.. حتى على نفسه لو لزم الأمر، يمكن لوزارات الخارجية في كافة دول العالم، أن تجد في جعبة المصريين مادة فكاهية غزيرة جداً.. تصلح للاقتباس منها واستلهامها، في وصف مختلف المواقف والأدوات الدبلوماسية.
نعم هذا ممكن، لكن بشرط واحد.. هو أن تتوفر الإرادة السياسية، لجعل السلك الدبلوماسي مجالاً خفيف الظل، وأكثر تحرراً من القواعد البروتوكولية.
وحتى الآن، يبدو أن السياق العام لا يسمح. وهنا، أذكر كيف أن مذيعة مشهورة – بإحدى الفضائيات العالمية – قاطعت الدبلوماسي الإسرائيلي الأسبق مائير كوهين ،عندما أراد الاستشهاد بموقف كوميدي للفنان عادل إمام.. وهو يتحدَّث في قضية سياسية صميمة، لكن قبل أن يكمل الضيف جملته – التي قال فيها «على رأي عادل إمام …» – نبهته المذيعة بحسم، إلى أن هذا لا يجوز… تقصد بذلك أن الدبلوماسية لا تعرف الهزار.
نقلاً عن «الشروق»