عمار علي حسن..
يبدو مصطلح «الجاهلية الجديدة» ذو نزوع احتجاجي.. لدى بعض منتجي الخطاب؛ من رموز جماعات سياسية إسلامية. وهو ينطوي على مبالغة شديدة.. في وصف واقع المسلمين المحدثين والمعاصرين؛ من زاوية اعتقاد أن ما يعيشونه حالياً هو جاهلية أخرى، تضاهي – أو تساوي، أو حتى تقترب كثيراً – مما كان سائداً قبل ظهور الإسلام.. في شبه الجزيرة العربية خصوصاً. أو أنها محض إنشاء لصنف آخر من «الجاهلية»..مفارق للزمان والمكان الذي ظهر فيه الإسلام، وعابر لهما.
ويُطلق لفظ «الجاهلية» – في الأدبيات الإٍسلامية التقليدية – على فترة ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يسود «الجهل والجهالة». ويعرفها «المعجم الوسيط» بأنها «ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة». ويقول عنها صاحب «فتح الباري»..الحافظ ابن حجر، بأنها «ما كان قبل الإسلام»، وهو ما يتفق معه المناوي، كما جاء في كتابه «فيض القدير».
ليست المشكلة في المصطلح، ودلالاته التي أوردها القرآن الكريم، وفسرها مفسرون، وقال بها مؤرخون، بل هي في طريقة استعماله، وما لحق بها من تصورات وتبعات.. امتدت إلى عصرنا الراهن، حيث أصبح كل ما هو «غيْر ديني»..بمنزلة «جاهلية جديدة»، في أدبيات معاصرة لبعض الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية، رغم أن مساحة العفو في الشريعة.. أوسع من الحلال والحرام، ورغم أن تجدد الحياة.. يفرض تصورات وتصرفات لا تجاري النص الديني بحرفيته، وإن كانت لا تتناقض مع مقاصده العامة، ومع الضرورات البشرية المتتابعة، ومع النظر العام إلى الخيرية.
وفي ركاب فكرة «الجاهلية الجديدة»،وُجد اتجاه من الرفض التام للنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المدنية، وانفتح باب تكفير مبطن للمجتمع، وتبرير لأي مسعى لتغييره عنوة، ونشأت نافذة.. لا تخلو من استعلاء على بقية عموم المسلمين، من قبل أولئك الذين يعتقدون أنهم فقط.. من اهتدوا إلى الإسلام، واستوعبوا معارفه، وامتثلوا لتعاليمه، وساروا على دربه.
وتناول سيد قطب المفهوم – في سياق تأويله للآية القرآنية – «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أوَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»؛ واصفاً الجاهلية هنا.. بأنها «الانحراف عن العبودية لله وحده، وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين.. من مصدر آخر غير المصدر الإلهي».
وبعد أن قطع سيد قطب، بأننا «اليوم في جاهلية.. كالجاهلية التي عاصرها الإسلام، أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم». ثم راح يقسم المجتمعات إلى «إسلامية»،و«جاهلية»..وفق مصدر تلقي «القيم والموازين والأحكام والأوضاع والتشريعات والأنظمة». وفي نظره فإن الأولى.. يكون مصدرها إلهياً، والثانية.. يكون بشرياً.
وأتت الكلمة -في أدبيات سيد قطب – بمعان عدة؛ هي «التخلف»،و«الفسق»،و«الانحراف». وارتبطت لديه.. بتصورات تخص القيم والسلوك، واستعملها غزيراً في ثنايا كتابه «في ظلال القرآن»؛ حيث وردت ألفين وسبعمائة وأربعين مرة، بل كررها في صفحة واحدة تسع مرات، في حين وردت كلمة «نور» في الكتاب نفسه أربعمائة وثلاثين مرة فقط، وهذا مؤشر على شدة الحضور والإلحاح.. الذي كانت تمثله فكرة الجاهلية في عقل الرجل.
وهنا يقول سيد قطب أيضاً: «إن العالم يعيش كله اليوم في جاهلية، لا تخفف منها شيئاً هذه التسيرات المادية المهمة، وهذا الإبداع المادي الفائق». ثم ذهب إلى أبعد من ذلك، فاعتبر المجتمعات الراهنة جاهلية، ولا صلة لها بالإسلام.. رغم طغيان المظاهر الإسلامية من صلاة وصيام وزكاة، ومساجد وأذان. فقال – في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» – «نقطة البدء الصحيحة.. في الطريق الصحيحة، هي أن تبدأ حركات البعث الإسلامي.. من أن وجود الإسلام قد توقف، هذا طريق. والطريق الأخرى، أن تظن هذه الحركات – لحظة واحدة – أن الإسلام قائم، وأن هؤلاء الذين يدّعون الإسلام، ويتسمّون بأسماء المسلمين.. هم فعلاً مسلمون. فإن سارت الحركات في الطريق الأول، سارت على الله وهداه. وإن سارت في الطريق الثاني، فستسير وراء سراب كاذب.. تلوح لها فيه عمائم؛ تحرف الكلم عن مواضعه، وتشتري بأيات الله ثمناً قليلاً، وترفع راية الإسلام على مساجد الضرار».
نقل سيد قطب فكرة «الجاهلية الجديدة».. من الهندي أبي الأعلى المودودي، الذي كان منتجه متأثرا بالسياق الاجتماعي.. الذي عاش فيه؛ فتعامل مع الجاهلية.. بوصفها منهج يناقض نظرة الإٍسلام إلى الله، وما وراء الطبيعة والكون والإنسان والحياة.. محدداً ثلاثة أنواع، منها: الجاهلية الصرف، وقصد بها الحضارة الغربية. وجاهلية الشرك، وهنا فتح الباب أمام حشر مئات الملايين من العرب والمسلمين.. بدعوى أنهم يأتون بمظاهر للشرك، توسع في تعيينها. وجاهلية الرهبنة، ووضع فيها أهل الكتاب مع متصوفة المسلمين.
ولم يكن قطب – هذه المرة – متأثراً بالمودودي.. فحسب، بل أيضاً بأبي الحسن الندوي.. الذي صدرت ترجمة عربية عام 1950 لكتابه الشهير «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟»،وتحدث فيه عن استمرار النزعات الجاهلية في رجال الحكومة.. في زمن تدهور المسلمين، ليتجه العالم بأسره إلى الجاهلية؛ ومنه العالم الإسلامي.
وقد وصف قطب المجتمع المصري – على وجه الخصوص – بأنه يعيش في جاهلية، في لحظة صدام «جماعة الإخوان المسلمين» مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر. وبدلاً من أن يحاول قطب أن يفهم – بطريقة موضوعية – بعض أسباب التفاف أغلبية المصريين.. حول خطاب عبد الناصر وممارساته، واتخاذ كثير منهم مسافة.. من تنظيم الإخوان وأفكاره، سارع إلى اتهام الناس.. بأنهم قد عادوا إلى الجاهلية، وتفرغوا لمحاربة الإسلام، الذي بدا في نظره متجسداً في دعوة «الإخوان» فقط، مثلما فعل مشركو مكة في الزمن الأول.. حيال رسالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن «المصري اليوم»