أمينة خيري..
المتابع – أو القارئ الرصين المنقرض – يحتاج إلى الصحافة الحقيقية، وليست صحافة المحتوى الرديء.. البديع. المحتوى الرديء البديع.. متاح للجميع على أثير «السوشيال ميديا»، ولا يحتاج الباحث عنه إلى البحث في الصحافة الحقيقية؛ سواء كانت مكتوبة أو مرئية أو مسموعة. ومحاولة الصحافة الحقيقية.. ضمان قطعة من كعكة المتابعة، والمشاهدة التي يستحوذ عليها صُناع المحتوى الرديء البديع.. تقلل من شأنها، وتحقر من قيمها، وتبدد من أثرها. والأدهى من ذلك، أنها تظل عاجزة عن منافسة الصناع الأصليين للمحتوى الرديء. فالرديء اليوم، ستجد ما هو أكثر رداءة منه غدًا.. على الأثير؛ حيث القاع لا نهاية له. فهل تصر الصحافة الحقيقية على الهرولة نحو القاع؟ أم تعيد التفكير فيما تبتغيه بطريقة عقلانية؟
قول واحد – وباستثناءات بالغة الندرة – انتهى عصر السبق الخبري في الصحافة الرصينة، أو التقليدية، أو الحقيقية. الدقائق التي تستغرقها الصحافة التقليدية.. في التحقق من الخبر، كفيلة بضمان السبق لجحافل المستخدمين على «السوشيال ميديا»، وأغلبها ينشر أو يذيع أو «يخرج لايف»..لضمان السبق والنقر، وفي حال اتضح أن الخبر ليس صحيحًا – أو يفتقد الدقة، أو عاريًا من المصداقية – فلا مشكلة. هم مجرد مستخدمين لـ«السوشيال ميديا»، وليسوا صحفيين مهنيين، فلا غبار أو عوار عليهم، ولا حساب لهم.
الصحافة الحقيقية يمكنها أن تستمر، وتحيا، وتنتعش.. في مرحلة ما بعد الخبر. والله.. إذا تمكنت من صناعة السبق الخبري فخير وبركة، أما لو حالت ضرورة التدقيق قبل النشر، فإن هناك مهمة الشرح والتحليل والتفسير، والتحقق العميق، واستعراض كافة زوايا، وجوانب، وآثار الخبر.. على القارئ. كيف سيؤثر تغير المناخ، أو استمرار الحرب، أو إبرام الاتفاق، أو الابتكار التكنولوجي الجديد، أو انتخاب هذا الرئيس وذاك.
حتى تبقى الصحافة التقليدية على قيد الحياة، وربما تصنع لنفسها مكانة متفردة.. في وسط هذه التخمة، أمامها طريق واحد.. لا ثاني له، اسمه «رواية القصص بأسلوب عميق وأكثر إقناعًا»، لا رواية القصص بأسلوب تافه وأكثر سخونة.
هذا يعني هيكلة مختلفة تمامًا.. للصحافة التقليدية الموجودة حاليًا. هذه الهيكلة لها ثمن مادي وبشري. مراسل الجنازات، وصحفي «إطلالة الفنانة الجريئة»، والباحث عن الفضائح، والصانع من الحبة قبة، وناقل دعاء درء الفقر وجلب الحبيب ورد المطلقة، ومبتدع عنوان «انظر ماذا سيفعل الطقس بنا»..سيجدون أنفسهم خارج المنظومة، إن لم يتم إعادة تدريبهم وتأهيلهم، وهم بالمناسبة ليسوا متهمين، بل ضحايا من اعتقدوا أن الطريقة السهلة.. لإبقاء الصحافة التقليدية على قيد الحياة، هي هرولتها نحو المحتوى الفارغ والمضمون النزق، ومنافسة صناع المحتوى «الخايب» في أكل عيشهم.. بسخونة أعلى ورداءة أعتى.
الحلول طويلة المدى.. ليست تلك التي لجأنا إليها. النسبة الأكبر من متلقي الأخبار.. في جميع أنحاء العالم، يتلقونها من السوشيال ميديا، لكن نسب النجاح في الإبقاء على القارئ الرصين.. الباحث عن المعلومة والتحليل، لا الفرقعة والتضليل، تختلف من مجتمع لآخر، وللحديث بقية.
نقلاً عن «المصري اليوم»