محمد أبو الغار
كريم إبراهيم، ونيفين عقل، وشيرين ناغو.. أسسوا شركة «تكوين» في عام 2009، لتقدم خدمات في التخطيط العمراني والحلول المعمارية للمباني القديمة، والبحث العلمي في هذا المجال.. مع المحافظة على التراث وصيانته، وإدارته بكفاءة للحفاظ عليه.
ما حدث شيء عظيم لمصر وسمعتها ومكانتها. الجائزة مقدارها مليون دولار يتم توزيعها على 7 مشروعات فائزة.. من ضمن 359 مشروعاً متسابقاً. والمشروعات الفائزة يجب أن يقوم بها أهل البلد، وتستخدم مواد موجودة في أماكن المنطقة، وأن يساعد في تطوير المجتمع ويتماشى مع قواعد البيئة.
وقد قامت هذه المؤسسة الرائعة بأعمال سابقة متميزة في تطوير منطقة الدرب الأحمر ومنطقة الهرم، ومناطق كثيرة وعندهم تراكم خبرات في ترميم والحفاظ على التراث، والعمل مع المجتمع وعدم تدمير البنايات التاريخية المختلفة. ومسبقاً حصل كريم إبراهيم ونيفين عقل على جائزة الدولة التشجيعية. إسنا تقع جنوب الأقصر بمسافة 55 كم، وبها معبد من العصر الروماني، والمعبد يقع تحت مستوى الشوارع والمباني.. بعشرة أمتار، ومازالت أجزاء منه مغطاة بالرمال وهو من أجمل معابد هذه الفترة، ويعتقد أن حوله آثاره كثيرة مدفونة في عدة طبقات.
أذكر عند زيارتي للمعبد أننا كنا نركب الحنطور من أمام النيل – في شارع عمودي على النهر، يصل إلى المعبد الغاطس عشرة أمتار تحت سطح الشارع – وحولنا بيوت الأهالي من جميع الاتجاهات، وعدد كبير من محال تبيع كل شيء للسياح، وعدد من الباعة الجائلين. وكان أول مشروع يعلن أغاخان عن فوزه.. هو إعادة إحياء مدينة إسنا التاريخية في صعيد مصر، وذكر أنه من أسباب الفوز؛ أن المشروع راعى شروط البيئة، وحافظ على التراث.. بالاشتراك مع المجتمع والأهالي بالكامل، مما أدى إلى نجاح مذهل للمشروع.
في تقديري أن من أسباب النجاح، أن الحكومة المصرية – التي من طبيعتها أن تنكد على أصحاب المشروعات عموماً، دون أسباب واضحة أو منطقية، فقط للعكننة على الناس، بدعوى مخالفة القوانين، أو أن أصحاب المشروع دمهم ثقيل أو أنهم لا يراعون موظف الحكومة – لكن كانت الحكومة في هذا المشروع متعاونة. وكان للمسؤولين في إسنا ومحافظ الأقصر دور في تفهم روح المشروع، والرغبة في إنجاحه.
في محافظة الأقصر، وعلى المستوى المحلي في إسنا، كان هناك مشروع قديم وكارثي.. بأن يتم هدم البيوت حول المعبد، وفي الطريق إليه، والحمد لله لم يتم ذلك.
المشروع الذي تم بنجاح، هو الاستثمار في البشر، وإقناع الناس بالمشاركة. وفي البداية رفضوا، لكنهم وافقوا بالتدريج. استأجرت شركة تكوين محلاً، وحافظت على التراث، لكنها غيَّرت شكل واجهة المحل وكان يبيع المنتجات المحلية، وليس الأشياء المستوردة من الصين – التي أغرقت الأسواق المصرية – نجح المحل، وذهب السياح له، فجاء أصحاب المحال يطلبون المساعدة.. فساعدتهم مؤسسة تكوين.. في تطوير شكل محالهم ونظافتها، وأنواع المنتجات، وشجعوهم على التخصص؛ بحيث تبيع بعض المحال الألابستر، والبعض الجعران، والبعض أنواعاً من الملابس. تغيَّر شكل السوق، وأصبح له طابع إسناوي قديم لم يفقده، وإنما أصبح جاذباً للسائح. ثم تم إنشاء قهوة بنفس نمط المباني، لكنها نظيفة وتقدم المأكولات المختلفة، والمشروبات بخدمة جيدة بعد تدريب العاملين.
لم يكن هناك مكان واحد في إسنا.. يصلح للإقامة، فلا يوجد فندق أو حجرات للإيجار. أنشأوا فندقاً صغيراً نظيفاً، وأصبحت هناك حجرات للإيجار.. عن طريق الشركة العالمية إير بي إن بي.
انتقل العمل إلى الأسواق القديمة القريبة من المعبد؛ لتنظيفها وتحضيرها للعمل.. مع الحفاظ على طراز المباني، وعدم هدم أي شيء.. وإنما إصلاحه، مع الحفاظ على التصميم الأصلي. هناك حرف كثيرة كانت على وشك الانقراض، فتم تدريب الشباب على تعلم هذه الحرف.. والإبداع فيها وإحيائها، وأصبح ذلك مصدر دخل لكثير من العائلات.
إسنا بها مناطق غير معروفة، وغير مستغلة. هناك مدينة قبطية قديمة غير معروفة، وهناك عدد من الأديرة القديمة، بالإضافة إلى الأديرة الكبيرة مثل دير الشهداء ودير فاخوري.. وهي أديرة ضخمة ؛وفيها أجزاء مازالت من الجدران القديمة من القرن الأول الميلادي. وتوجد أديرة قديمة صغيرة مغلقة. وهناك مسجد العُمري الأثري.
وفي إسنا توجد محمية طبيعية.. اسمها الدبيبة، وهي إحدى المحميات القليلة في العالم، التي تحاول أن تكتشف حلقة مفقودة من عمر الكرة الأرضية.. عمرها 2 مليون عام، ولا أحد يعرف عنها شيئاً.
قامت جمعية تكوين بإقناع السيدات بصعوبة.. بطبيخ وجبات صعيدية؛ تختص بها إسنا، ونجحوا في تشجيعهن على ذلك. وتم افتتاح مطعم.. تقوم عليه بالكامل السيدات، يقدم 20 صنف طعام من إسنا. وتم عمل مسابقات بين السيدات.. لرفع مستوى الطبيخ، وتم طبخ أكلات أصلية نادرة.
إسنا بها قصور قديمة مهملة، قام عمال إيطاليون بتجميل الحوائط والشكل الخارجي للمبانى.. عند بنائها، وعمرها أكثر من مائة عام، والملك فاروق كان عنده استراحة هناك. وتم ترميم وكالة الجداوي التاريخية في إسنا، وهي تُعد مركزاً تاريخياً للتجارة في العصور المملوكية والعثمانية، وتم عمل مركز مجتمعي.
هذا النجاح العظيم، بدأ بالتعليم الجيد للمؤسسين.. في مراكز متميزة مثل كلية هندسة جامعة القاهرة على يد بعض الأساتذة المهتمين بالتخطيط العمراني والحفاظ على التراث مثل د. دليلة الكرداني. وهناك شخصيات مهتمة بعلم الأنثروبولوجيا.. مثل شيرين زوغو، كانت لها بصمة.. باستخدام علمها، وهالة بركات – الخبيرة في الأكل المصري – التي ساعدت السيدات، وشجعت مسابقات الطبيخ المتعددة، وساعدت في نجاح القهوة والفندق. وغيرها، مثل ماريان إكرام – حفيدة ويصا واصف – ومايسة مصطفى.. خبيرة السياحة، التي شاهدت التطوير الذي حدث في إسنا، بواسطة مشروع تكوين الرائع، الذي حاز على جائزة يستحقها.
هذا درس للمسؤولين المصرين.. المسؤولين عن تدمير الأماكن القديمة؛ كما حدث في الإمام الشافعي، وغيره مثل إسطبل عنتر.
على الحكومة أن تتعلم، وتدرس خبرات المصريين العظماء.. المتعلمين والمثقفين، القادرين على الإصلاح، والحفاظ على الآثار والتاريخ، بدون تدمير.. حتى يتوقف غرام الحكومة الشديد بالأسمنت.
»قوم يا مصري مصر دائماً بتناديك».
نقلاً عن «المصري اليوم«