سيد محمود
أدين للصديق الإعلامي عمرو خفاجي – رئيس تحرير «الشروق» السابق – بأشياء كثيرة؛ آخرها لفت نظري إلى كتاب مهم لم.. يكن ليثير اهتمامي بسبب عنوانه، الذي يبدو غريباً على القارئ المعاصر، وهو «السياسة الأمينة بأخبار من سكن المدينة».
وزاد من شغفي أن الكتاب ذاته.. بدا بعيداً عن الإنتاج العلمي السابق لمؤلفته الدكتورة زينب أبوالمجد – وهي أستاذة مصرية للتاريخ في جامعة أوبرلين الأمريكية، درست في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، ثم حصلت على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في موضوع أقرب للتاريخ الحديث، وليس التاريخ الإسلامي الذي ذهبت إليه في كتابها الأحدث – وهو موضوع هذا المقال.
قبل هذا الكتاب، تُرجم كتابها «إمبراطوريات متخيلة – تاريخ الثورة في صعيد مصر»، إلى العربية.. عن طريق المركز القومي للترجمة – بحماس من الصديق أحمد زكي عثمان، الخبير الإعلامي في الصليب الأحمر – وضم رسالتها إلى الدكتوراه، وأثار اهتماماً كبيراً من قبَل المهتمين بتاريخ الصعيد، لأنه يغطي حوالي 500 سنة من تاريخه، وينبش في حوادث مجهولة.
غير أن كتابها الجديد – الصادر عن دار المرايا في مصر – يعالج موضوعاً يندر أن تجد كتاباً حوله في مصر، وهذا الموضوع هو قصة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام – في مسجده بالمدينة المنورة – وعلاقته بتاريخ المسلمين.. من زاوية وثيقة الصلة بتاريخ النساء، وحركة التطور العمراني، وما يُسمى بالعمران البشري، أو ما يُسمى الآن.. بالهندسة الاجتماعية أيضاً.
كم كان مثيراً ما روته مؤلفة الكتاب، من أنها تفرَّغت للبحث في كل ما يخص المقبرة.. طوال 3 سنوات، بسبب شغفها بمحاضرة قدَّمها أحد الناشطين السعوديين عبر الإنترنت، كشف فيها عن مؤرخ – كانت تسمع باسمه للمرة الأولى – وهو نور الدين السمهودي؛ الذي يُعد من أوائل من كتبوا عن تاريخ وعمارة المدينة المنورة.
تتبعت «أبوالمجد» – بدأب حقيقي – سيرة الرجل وما كُتب حوله، واكتشفت من خلاله.. أن قبر الرسول (ص) لم يُفتح بعد وفاته سوى مرة واحدة، وقد ظل مغلقاً طوال 800 عام، ولم يُفتح إلا في 881 هجرية و1476 ميلادية بأمر من السلطان الأشرف قايتباي.. الذي اتخذ قراراً ثورياً بترميم القبر الذي أُغلق بعدها.
يكشف الكتاب تفاصيل عملية الترميم، التي جرت عبر معماري مصري – له اسم غامض وغريب، يماثل أبطال ألف ليلة وليلة – هو شمس الدين بن الزمن.
ومن اللافت – أيضاً – أن قرار الترميم كان أمراً سلطانياً.. أُرسل من القاهرة معززاً بالمهندسين والعمال لتنفيذه، وقد وجد – أيضاً – مقاومة ورفضاً شديدين من علماء المدينة، إلا أن قايتباي عدّ قراره مسألة لا رجعة فيها.. التزاماً بمسؤوليته تجاه دينه، قبل أي أمر آخر.
سجَّل السمهودي ما رآه في كتابه «وفا الوفا بأخبار دار المصطفى»، وحاولت زينب أبوالمجد تقليده، وكتبت عنواناً ينتمي إلى نفس النسيج.. انسجاماً مع ما جمعته من مادة.
ربما يعلم البعض، أن الغرفة التي بناها الرسول الكريم.. لكي تكون بيتاً للسيدة عائشة، أصبحت ضريحاً ضم رفاته فيما بعد.
ومن خلال المادة التاريخية – التي جمعتها من مصادر تراثية خالصة – قدَّمت رواية مغايرة لأدوار النساء – في فترات شائكة – خلال سنوات الخلفاء الراشدين، وبالذات في الفتنة الكبرى.
يقول الكتاب – ببساطة – إن النساء لم يكنَّ بعيدات عن المشهد، بل علي العكس.. كن فاعلات تماماً، بما يدحض الرؤى التي تصور المجتمعات الإسلامية.. كمجتمعات راكدة.
وتظهر مساحات إنسانية مطمورة، تخص صور التنافس أو الغيرة، وطبيعة الحياة بين النساء.. داخل مجتمع المدينة، وتحررها من الصور المعتادة.
وتكشف «أبو المجد» – من جديد – الأدوات التي استعملها الرسول الكريم.. لتثبيت دعائم دولته، وصورته كنبي وحاكم سياسي.. يقود دولة ناشئة لها رسالة عالمية، كما تُبرز جانباً مجهولاً لم يُسلط عليه الضوء بشكل كافٍ، وهو الجهود المبكرة لحركة التخطيط العمراني في المدينة.. عقب هجرة الرسول.
كما قدَّمت المؤلفة مقاربات في منتهى الجدية.. حول موضوعات شائكة، بنت سرديات مغايرة وبديلة.. حول نساء النبي، ووضعية النساء في المسجد، وكيف تطورت وظيفته داخل الحضارة الإسلامية.
أهم ما في دراسة «أبوالمجد»، أنها جاءت عبر تعامل مباشر.. مع مادة أرشيفية وتراثية، لم تسقط عليها أية رؤى حديثة.. محملة بعبء الأيديولوجيا، رغم الاستفادة من دراسات معاصرة – حول الجندر أو النوع الاجتماعي، أو دراسات تاريخ النساء، أو دراسات التاريخ البديل – كما اطلعت على ما قدَّمته باحثات بارزات.. سبقن إلى تناول نفس القضايا؛ منهن أميمة أبوبكر، وفاطمة المرنيسي، وهدى الصدة، وألفة يوسف، وأخريات فاعلات في مجموعات بحثية معروفة، أحدثها حركة «مساواة» في ماليزيا، والتي تُرجِم عن أعمالها كتاب مهم نشرته «الكتب خان» بعنوان «العدل والإحسان»، وضم أبحاثاً مهمة لمُلكي الشرماني، وسارة مارسو، وزينة أنور.. وأخريات.
وبحكم قاطع، فإن الكتاب الفريد – في مادته الشيقة الخالية من التعقيد – يعمل على اكتشاف المدونات التراثية، وانطلاقاً منها.. يقوم بخلخلة صور الهيمنة الذكورية؛ من داخل كتب التراث، والأحاديث، وكتب السيرة النبوية، والتفاسير. وتبني المؤلفة منها.. كولاجاً فريداً، حول تاريخ الإسلام، تقاوم عمليات تنميطه.. سواء جرت من داخل المجتمعات الإسلامية أو من خارجها.
نقلاً عن «الشروق«