عبدالله عبدالسلام
على طريقة البيت الشهير للشاعر أبوتمام، أحد أمراء البيان في العصر العباسي: «السيف أصدق أنباء من الكتب.. في حده الحد بين الجد واللعب». يمكن القول: الأرشيف الصحفي.. أصدق أنباء من الكلام النظري، عن حال صحافتنا اليوم. أتيح لي خلال الأيام الماضية قراءة كتابين تضمنا مقالات منشورة في عقد الستينيات. الأول للكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، عنوانه: «هذه الدنيا»، والثاني للمبدع الروائي الراحل يحيى حقي، وعنوانه: «في محراب الفن». المقالات كنز حقيقي.. ليس فقط للتوثيق والتعرف عن قرب على مجتمعنا في تلك الفترة، بل تأكيد كم كانت الصحافة المصرية عظيمة ومبدعة.
في مقالاته – التي كان يكتبها أسبوعياً في «أخبار اليوم» – يقدم بهاء الدين صورة نابضة بالحياة.. لمجتمع الستينيات وللعالم آنذاك.. من خلال فكر موسوعي وتحليلات ورؤية مستقبلية عميقة.
لم تقتصر «الأسبوعيات» على السياسة، بل كانت الثقافة والفن والتاريخ والعلاقات الإنسانية.. شاغله الأهم.
يكتب: «هل هناك مكان للحب؟». المقال تناول آراء رددت أن هناك تعارضاً بين قيم العصر الاشتراكي وعاطفة الحب الإنساني والشخصي. تشعر بأنك لست فقط أمام كاتب قدير؛ بل مفكر وباحث اجتماعي ونفسي وفنان. يكتب أيضاً عن «محاولة لفهم بيكاسو»، فإذا بنا أمام ناقد تشكيلي.. له رؤية ومعرفة موسوعية بالعالم والفن ورموزه. سلسلة مقالاته عن الانتخابات الأمريكية – التي كتبها عن زيارته عام 1960 – تشريح للمجتمع الأمريكي ونخبته السياسية وتاريخه، ولا تزال صالحة حتى اليوم.
أما مقالات رائد القصة القصيرة يحيى حقي، فهي حديقة غناء.. تحتار في اختيار الزهرة الأفضل، والوردة الأجمل. كلها تشع عبيراً وجمالاً.
يكتب عن الأوبرا وفنونها، فتظن أنك تقرأ لفنان أو ناقد أوبرالي شديد التخصص. وعن الموسيقى، فإذا بك تشعر أنك تسمع لحناً جميلاً عذباً.. من فرط جمال الأسلوب ورقته، والمعاني والأفكار التي يتضمنها المقال.. ببساطة وسلاسة قل نظيرهما. يكتب أيضاً عن فرقة «البيتلز» البريطانية.. وقت ظهورها؛ كما لو كان ناقداً موسيقياً محترفاً. ستجد عشرات المقالات.. عن شتى الفنون، يجمع بينها الأسلوب الراقي البديع والأفكار المبتكرة.
في مقال له عام 1966 يقول: «عمت العمارة فوضى لا حدود لها. أصبح الأمر سداحاً مداحاً. بنيت الأحياء الجديدة.. على أقبح صورة. إني أغمض عيني إذا مررت بها.. كانت مصلحة التنظيم قد غسلت يديها – فيما يبدو – بالليفة والصابونة، لا تبالي بتحمل أقل مسؤولية.. تركب أصحاب العمارات، يبنون بطوبة ونصف طوبة، ولولا الملامة لبنوا بورق سجاير».
حقي وبهاء الدين.. مثالان فقط.
كانت لدينا صحافة تغذي العقل وتسعد القلب وتريح العين. الآن، تحولت مقالاتها – إلا ما رحم – إلى خواطر وتعليقات وآراء.. تفتقد الحجج والبراهين. غالبيتها في السياسة والشأن الجاري. انزوت القضايا الجادة الأخرى. الدراسات المعمقة الممتعة في الأدب والفن والثقافة وغيرها.. غادرتنا، وإن وجدت.. فهي مبهمة، شديدة التعقيد.
وكما قال عبدالرحمن الكواكبي (1854- 1902): «ما بال هذا الزمان يضن علينا برجال.. ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس. يفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون».
الصحافة الآن في حاجة إلى هؤلاء الرجال.
نقلاً عن «المصري اليوم»