سمير مرقص..
قصة الشجرة المسمومة؛ ليست عنواناً لنص أدبي، وإنما فكرة جوهرية.. وردت في التقرير السنوي لمؤسسة أوكسفام التنموية الدولية – الصادر قبل أسبوعين – وعنوانه: «ناهبون لا صانعون.. الفقر الظالم والثروة غير المكتسبة الناتجين عن الاستعمار Takers Not Makers».
يُعد تقرير هذا العام 2025 حلقة جديدة من حلقات التقارير السنوية، التي دأبت على إصدارها «أوكسفام» منذ سنوات.. حول أحوال العباد الحياتية حول العالم، والتي تحرص على نشرها في مطلع كل سنة.. عشية اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي – المعروف باسم منتدى دافوس – الذي يُعقد في شهر يناير من كل سنة. وهو المنتدى المعروف باستضافته نخبة العولمة – أو نخبة الليبرالية الجديدة الاقتصادية والسياسية والمالية حول العالم – لعدة أيام.. في منتجع دافوس السويسري منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، فيما يعده كثيرون رسالة للنخبة الثرية بضرورة الانتباه إلى سوء تلك الأحوال.
وقبل التطرق إلى مضمون التقرير، ومعرفة قصة الشجرة المسمومة.. التي تبلور مجمل المفاهيم والتحليلات والمعلومات والإحصائيات، التي وردت في تقارير أوكسفام على مدى ما يقرب من عقد من الزمان، أظن أنه من المفيد استعراض مضامين التقارير السابقة، تمهيداً لتقديم خلاصة تقرير 2025..في مقالين، نبدأ بأولهما اليوم، ونستكمله بمقال ثانٍ الأسبوع القادم إن شاء الله.
عنيت تقارير أوكسفام في العقد الأخير بقضية بالغة الأهمية، ألا وهي قضية «اللامساواة»..بين القلة الثروية والأغلبية من مواطني الكوكب. فلقد وصلت اللامساواة، في نظر أوكسفام، إلى حد غير مسبوق في التاريخ الإنساني، ما دفعها إلى التأكيد في تقرير 2023 إلى أن العالم يعيش زمن: «انفجار اللامساواة» Inequality Explosion؛ ما أثر على الوضع المعيشي لتلك الأغلبية، وتنامي الفقر وتزايد عدد الفقراء. فلقد باتت اللامساواة – حسب تقرير أوكسفام لسنة 2021 – مثل الفيروس.. الذي لا يتوقف عن الانتشار في الجسم الاجتماعي والطبقي العالمي. ومن ثم فإن عدم مقاومة فيروس اللامساواة، سيؤدي حتماً إلى قتل الكثيرين؛ كما خلص تقرير 2022 المعنون: «اللامساواة تقتل».
نعم، يؤدي اتساع فجوة اللامساواة إلى تزايد الكتل الهشة في المجتمعات وتضاعف معاناتها الحياتية. ويفسر معدو التقرير سبب اللامساواة البينية داخل المجتمع الواحد، أو بين الأمم..أنها تدمر وتمزق عالمنا إرباً إرباً – حسب مفردات التقرير -ويدعو إلى التوقف عن «العنف الاقتصادي» الذي يمارسه أصحاب الثروات الطائلة.. بفعل خيارات سياسية/اقتصادية لا تراعي إلا مصالح القلة؛ما يسبب «ضرراً مباشراً للأغلبية، ولأفقر الناس». ويرصد التقرير كيف تسهم اللامساواة في «وفاة شخص واحد على الأقل.. كل أربع ثوان». والنتيجة، وكما أوضح تقرير 2023 المعنون: «البقاء للأغنى».. تفصيلاً؛ (مستوحى من مصطلح «البقاء للأصلح».. الشائع في كتابات داروين وسبنسر وأدبيات البيولوجيا، والفلسفة التطورية)، بأن العالم يسير نحو كارثة إنسانية، إذ يعيش «لحظة غير مسبوقة من الأزمات المتعددة».
ويعاني عشرات الملايين الجوع، فيما يواجه مئات الملايين ارتفاعاً غير منطقي.. في تكلفة السلع الأساسية، أو تدفئة منازلهم. ويؤدي انهيار المناخ إلى شلّ الاقتصادات، فيما يرغم الجفاف والأعاصير والفيضانات.. الناس على النزوح عن منازلهم. وفي الوقت نفسه، ثمّة رابحون من جميع هذه الأزمات المتعدّدة، حيث أصبح الأغنياء أكثر ثراءً بشكل كبير، وبلغت أرباح الشركات مستويات قياسية، ما أدّى إلى انفجار في اللامساواة» (راجع مقالنا الذي كتبناه قبل عامين المعنون: البقاء للأغنى).
ومن مجمل التقارير السابقة – بما تضمنته من أفكار تحليلية ومعلومات وإحصاءات – كشفت أوكسفام في تقريرها لسنة 2024 المعنون: «مؤسسة اللامساواة»؛ كيف تمأسست «اللامساواة»..من خلال «التعزيز الفائق لسلطة الشركات، وتمكينها من السيطرة على الأسواق» ومن ثم تدشين «عصر جديد من الاحتكار»..في عديد القطاعات، وذلككما يلي، على سبيل المثال لا الحصر.
أولاً:في مجال الدواء: اندمجت 60 شركة في 10 شركات دواء عملاقة عالمية فقط.ثانياً:في مجال البذور: تمتلك شركتان دوليتان الآن أكثر من 40% من سوق البذور العالمية. ثالثاً:في قطاع التكنولوجيا الرقمية: تهيمن ثلاث شركات كبرى على الأسواق إذ يسدد ثلاثة أرباع الإنفاق العالمي على الإعلانات عبر الإنترنت إلى شركات ميتا وألفا بيت وأمازون.
وفي ضوء الإحصاءات السابقة، والكثير غيرها، أوضح التقرير كيف فاقمت السلطة الاحتكارية اللامساواة، إذ تضخم متوسط هامش أرباح الشركات العملاقة في العقدين الأخيرين وتضاعفت الأسعار عدة مرات في السنوات الخمس الأخيرة ما أنتج مشهداً انقسامياً حاداً للعالم، وذلك كما يلي: عالم شديد القسوة لغالبية لبشر. وعالم آخر رائع لقلة من البشر.
وعن العالمين، يشير التقرير إلى أن هناك 4.8 مليار شخص.. ممن يصنفون بالأشد فقراً، ويشكلون قوام العالم الأكثر قسوة، حيث يبيت أكثر من 800 مليار شخص جائعين. في المقابل – وفي الوقت نفسه -تضاعفت الثروات الفاحشة.. في أيدي قلة، تعيش بالأساس في شمال الكرة الأرضية، ما جعله موطناً لنحو 70% من الثروة الخاصة، و74% من ثروات أصحاب المليارات في العالم (الذين نمت ثرواتهم بثلاثة أضعاف معدل التضخم.. خلال السنوات الثلاث الأخيرة). وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الشمال لا يعيش فيه سوى 21% من سكان العالم. وفي عبارة مكثفة تُجسد المشهدية العالمية الحادة الانقسام.. الراهنة، يوجه التقرير النظر إلى أن: أغنى 1% من البشر، يستحوذون على ما يقرب من ثلثي جميع الثروات الجديدة المراكمة؛ أي نحو ضعف الأموال التي يمتلكها أفقر 99% من سكان العالم،الأمر الذي يدعو إلى ضرورة إعادة تصميم اقتصاداتنا بشكل جذري لكي يتمحور حول المساواة.
وفي هذا الإطار، طرحت أوكسفام – في تقرير 2025 – «ناهبون لا صانعون»..رؤية أكثر شمولية، تتمحور حول فكرة بديعة.. هي «الشجرة المسمومة»،تكشف فيها عن جذور اللامساواة، أو أصول النظام الاقتصادي الذي أنتج اللامساواة، و«الجذع»..الذي شكَّل البنية المؤسسية للامساواة – واصلاً بين الجذور والفروع، والثمار القاتلة لأي مساواة. نفصِّل في مقالنا القادم قصة الشجرة المسمومة؛ التي أتصورها دراسة تاريخية سوسيوـاقتصادية (في الاقتصاد الاجتماعي).. قيِّمة.
نقلاً عن «الأهرام»
قصة الشجرة المسمومة!؟ «1ـ2»

شارك هذه المقالة