نبيل فهمي
دعا دونالد ترامب الأردن ومصر قبول المزيد من الفلسطينيين – ارتباطاً بإعادة تعمير غزة – قبل أن يستطرد ويكشف أن ذلك قد يكون لفترات ممتدة.. لأن مساحة الأرض صغيرة.
أثار التصريح ردود فعل بالغة السوء لدى الرأي العام الأردني والمصري، بالإضافة إلى بيانات حكومية رسمية تعكس عدم ارتياح شديداً للمقترح، وأكثر قراءة للتصريح تفاؤلاً، هو أن ترامب غير ملم بتفاصيل القضية، وأن التصريح فى سياق ممارساته غير النمطية الخشنة؛ وهو بالفعل متنمر، يجهل أصول القضية وحساسيتها. وإنما التصريح لم يكن عفوياً، ويحمل فى طياته مخاطر عديدة.
ويخطئ من يتصور أنه تصريح عابر، ويجرم من يقلل من خطورته وتداعياته؛ لأن غرضه خبيث، وتداعياته وجودية. والطرح له خلفية سياسية واضحة ومتنامية.. في إسرائيل، ولدى اليمين اليهودي والمسيحي.. في الولايات المتحدة؛ والمتمسك بأن إسرائيل الكبرى لليهود، كرره مراراً في الماضى وزراء بالحكومة الإسرائيلية، وأغلب المعنيين بالشرق الأوسط في الإدارة الجديدة.. ممن يتبنون هذه الأفكار.
إذن الأمر يجب أن يؤخذ بمنتهى الجدية، لأنه جزء من خطة خبيثة ومكتملة.. لتمييع الهوية الفلسطينية والقضاء على القضية بأساليب مختلفة، وهي الطلقة الأولى من الإدارة الجديدة، وسيتم تبنيها والترويج لها في الخطاب السياسي للإدارة الأمريكية وفي إسرائيل من مطلق «الواقعية» في أمريكا، و«الأيديولوجية» داخل إسرائيل، وبين مؤيديها على يمين الساحة السياسية. كما أن التعامل المادي الرقمي مع القضية، يتفق مع أسلوب تفكير رجل الأعمال ترامب، الذي يعتقد أن كل قضية لها حلول عملية، بصرف النظر عن الحق والباطل، وأن لكل مسألة تكلفة ولكل طرف سعر.
ولم تكن مفاجأة.. أن ترامب أكد تمسكه بالاقتراح، حتى بعد عدم ترحيب الأطراف العربية به، وينتظر أن نشهد في الأسابيع القادمة اتصالات أمريكية مكثفة.. مع الأردن ومصر، لطرح حوافز للقبول بهذا الطرح، أو في حالة رفضه.. التهديد صراحة بردود فعل، وتخفيضات خاصة بالنسبة للمساعدات الأمريكية المقدمة لهما، والتنبيه والتذكير بنفوذ الولايات المتحدة في المؤسسات المالية الدولية، إذا لم تتم الاستجابة للمقترح، وهي ممارسات جديدة تعكس أننا في عهد الدبلوماسية الخشنة والعلنية.
تسعى دول كثيرة منذ فوز ترامب بالانتخابات.. لتأمين علاقات طيبة، معه أو على الأقل عدم التصادم معه؛ بما فيها عدد من الدول الكبرى مثل روسيا والصين والحلفاء الأوروبيين. إلا أن ممارسات ترامب الصدامية والمتواصلة، أثارت العديد من ردود الفعل المباشرة والسلبية، حتى بين الأصدقاء أو الحلفاء، مثلما شهدنا من الدنمارك وبنما والمكسيك وكندا، عندما شعروا أنه تجاوز الحدود الوطنية.
عكست ردود الفعل الأردنية والمصرية.. الموازنة بين القوة والوضوح، على الرغم أنهم – بطبيعة الحال – يفضلون عدم التصادم مع الرئيس الأمريكي الجديد.. بشكل مباشر وسريع، لأنه ليس مقبولاً المشاركة، أو إغفال قضية جد خطيرة. وأكدت التصريحات الأردنية على أن الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين. وأكدت مصر على رفضها أي اقتراحات.. في غير طريق حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية؛ وهي مواقف ثابتة ومستقرة للدولتين، تعدان أكثر الداعمين للقضية الفلسطينية. ومن يتأثرون مباشرة بالتوترات الإسرائيلية الفلسطينية، والظلم الإسرائيلي البين في حق هذا الشعب البطل، ومواقف الدولتين لها جذور تاريخيّة عميقة، ونابعة عن تقدير عميق لخطورة تداعيات التهجير على أمنهما القومي. والمقصود هنا، ليس التخويف من ممارسات المهجرين الفلسطينيين، إنما باعتبارها ممارسة ممتدة، وتعكس سياسات توسعية إسرائيلية أخرى.
تجنب الصدام السريع مع ترامب.. قد يبدو منطقياً، وقد يراه البعض سليماً من الناحية التكتيكية، إلا أنه لا يعالج الموقف جوهرياً، ولا يفصل في احتمالات التصادم.. القادم حتماً؛ لأنني أعتقد أن ما طرحه ترامب.. بداية اشتباك سياسي جديد، ولن نصل إلى نهايته.. بمجرد تعبير بعض الدول العربية عن رفضها له. وأتوقع أن نشهد المزيد من الضغط، والتصعيد من الجانب الإسرائيلي والأمريكي، وأن يتكرر الطلب، أو المناورات العديدة.. لتحقيق نفس الغرض؛ يُطرح أغلبها على لسان ترامب ذاته.. سعياً لاستغلال اهتمام دول عديدة، لتجنب التصادم معه شخصياً، وكما ذكرت ستكون أول خطوة.. مزيداً من الضغط الاقتصادي، وسيلي ذلك – أو يصاحبها – تطوير في اقتراح قبول اللاجئين، ليكون لمرحلة انتقالية أو مؤقتة، إلى حين التنفيذ الكامل لاتفاق غزة، أو ترحيلهم إلى دول أخرى، علما أنه لا توجد سوابق.. سمحت فيها إسرائيل بعودة اللاجئين.
ويُستبعد أن يتم التراجع عن هذه الفكرة.. لمجرد أن مصر والأردن لم يرحبا بها، لأن التهجير خطوة جوهرية.. في تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها، والحد من الخطر الأكبر على يهودية إسرائيل، ولا أستبعد أن يتطور الاقتراح.. ليشمل أيضاً استيعاب أعداد إضافية من الفلسطينيين في دول عربية عديدة، بالإضافة إلى تحميل العرب نسبة كبيرة من تكاليف إعادة بناء غزة وتهجير الفلسطينيين.
لهذه الأسباب وغيرها، فعلى أكبر عدد من الدول العربية.. إعطاء هذه القضية اهتماماً خاصاً، والتفاعل معها بشكل جدي وشبه جماعي؛ لأن غرضها القضاء على الحلم الوطني الفلسطيني. والعالم العربي – وليس الأردن ومصر وحدهما – الساحة والآلية المستهدفة لتحقيق ذلك، كما أن العمل العربي الجماعي – حتى إذا لم يكن كاملاً – يخفف من تأثير الضغوط الأمريكية على كل منهما؛ خاصة ومواقفهم الجماعية متقاربة، وأصلب أمام هذا التطور الخطير، الذي قد ينعكس على مصالح الكثيرين منهم.. دون تجاوز الفلسطينيين والأردن ومصر.
وأفضل وسيلة لتجنب التصعيد والصدام الحاد، هو التنويه السريع والعلني والواضح رفضنا العربي للاقتراح، وبتره من جذوره، بالتوضيح المبكر والعلني.. برفض الاقتراح والتمسك بحل الدولتين، وجعل التعاون – في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار بغزة – مرهوناً بتوفر مفهوم سياسي، وبوقف التهجير، كما على العرب تنشيط جهودهم ضد قضية التهجير.. في المحافل الدولية أيضاً؛ خاصة وأن التهجير الجبري جريمة ضد الإنسانية، وأداة من أدوات الإبادة الجماعية.. المطروحة على المؤسسات الدولية القانونية.
نقلاً عن «إندبنتنت عربية»