Times of Egypt

في عيدها.. ذكريات مع سيناء 

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال 

 
مرَّ أكثر من أربعة عقود على تحرير سيناء، وأكثر من ثلاثة عقود على تخليص طابا، ورغم أن اليهود يجب أن يكونوا أكثر من يعلم.. قيمة الأرض عندنا، والارتباط بها، وتوحُّد أهلها بها، إلا أنهم لم يتوقفوا عن استمرار التنمر والتآمر على أرضنا في سيناء؛ ذلك بفرض أن أسطورتهم صحيحة.  

ومهما قيل أو كُتب عن تلك الأرض المقدسة، فإنها تبقى ملهمة، تتجدد زوايا رؤيتها وفهم جغرافيتها وتاريخها وقيمتها على الدوام. 

ولا أبالغ إذا أشرت.. إلى أن تواصلي مع سيناء بدأ مبكراً – وتحديداً عام 1956 – عندما كان خالي حمدي الجمال مجنداً في الكتيبة الخامسة مشاة، وشارك في صد العدوان، وانقطعت أخباره وهو في سيناء، ومرت الأسابيع الطويلة؛ حيث كانت تقف أمه «جدتي»، ترقب الأفق يومياً وتدعو الله.. إلى أن فوجئت – ذات يوم – بمن يقترب من الباب الغربي للدار.. شخص طويل، هزيل الجسد، أغبر البشرة، هائش الشعر، يلبس جلباباً لا يكاد يصل إلى ركبته، ويحمل سلة من الخوص، فنهرته – إذ ظنته أحد المجاذيب المتصوفة، الذين كانوا يلجأون بكثرة إلى تلك الدار – وسقطت الأم من طولها.. عندما سمعته يقول: «أنت مش عارفاني يا أمه… أنا حمدي»؟!  

… كان قد أفلت من الأسر، وساعده بعض أهل سيناء؛ فألبسوه جلباباً وصندلاً، وأعطوه الوعاء وبه طعام. 

ثم جاءت 1967، وفيها عشت أيضاً.. التواصل السمعي والإنساني مع سيناء، إذ انقطعت أخبار ابني عمي المقدم المهندس الشهيد فؤاد عبدالحكيم الجمال، والرقيب مجند المرحوم إبراهيم محمد الجمال؛ استشهد الأول في منطقة المغارة، وعاد الثاني بعد تبادل الأسرى. 

وفي 1968، انتظم تواصلي الإنساني بسيناء.. عبر العلاقة الوثيقة التي ترسخت بيني وبين عضو مجلس الأمة آنذاك.. الشيخ علي حسن خلف، ومن ثم مع القطب الصوفي الأبرز الشيخ عيد أبو جرير، ومن معهما في الساحة الجريرية.. بجزيرة سعود، وفي أماكن أخرى بمحافظة الشرقية ومديرية التحرير، وغيرها من الأماكن التي احتضنت من هاجروا من سيناء إثر العدوان. 

وبدأت مراسلة أخي وصديقي وابن صديقي الشيخ علي خلف، وهو شيخ المجاهدين حسن خلف. وكان محكوماً عليه بالسجن المؤبد عدة مرات، وأودعه الصهاينة سجن عسقلان.. إلى أن تم تبادله وتكريمه، وكان نجماً وطنياً ألقى كلماته عدة مرات أمام الرئيس السيسي.. في ندوات القوات المسلحة. 

وكنت في مجلس الشيخ عيد – القطب الصوفي وشيخ مشايخ قبيلة السواركة – أتابع مجريات تأسيس ورعاية منظمة سيناء العربية. وفي ذلك تفاصيل سبق وكتبت عنها، وأتمنى أن أتوسع فيها وأضمنها مذكراتي. 

عرفت أهل سيناء الغالية، وحضرت أفراحهم، وشاركتهم «السامر» و«الدحية»، وأنشدت «ما أحسن صلاة النبي في قلوب مطمئنة»، وحفظت بعضاً من أشعارهم، وأذكر الأبيات التي انطلق بها لسان أحد مشايخهم.. عندما وجد خسيساً يتحكم في الأحرار، الجالسين في انتظار مقابلة الحكمدار البريطاني، ومنها: «دار الفلك دار.. وصار القمر شمس/ والشمس غديت هلال/ وكحيلنا اللي كان يشبي على الخمس.. اليوم يسحب في مكين الحبال.. وكديشنا اللي كان نكسيه بالحلس.. اليوم في عز القوى والدلال». 

ومعنى الكلام، أن الزمن تغير.. وحطمت عادياته كل الثوابت، فالقمر صار شمساً، والشمس صارت هلالاً.. والحصان العربي الأصيل الكحيل.. الذي كان يستطيع تلقيح خمس مهرات، صار هزيلاً مكبلاً بالحبال.. أما البغل الخسيس الذي كان يكسوه الخيش «الكديش»، فصار في أعلى المراتب والأموال. 

وعرفت – إلى حد كبير – الفرق بين «البدو» وبين «اللدو»، ومن هم «طباخين المياه». وجالست أحباباً من العريضات والرميلات والبياضية والترابين والعنيزات وعرب بلى وغيرهم، ولنا حكايات ونوادر كثيرة. 

وقد زرت سيناء بعد التحرير، وذهبت ثلاث مرات إلى كاترين. وأربع مرات إلى العريش والشيخ زويد والجورة. وبعدما أنشب الإرهاب أظافره، وكشَّر عن أنيابه في سيناء.. بقيت أطالع الكتاب العمدة عنها، وهو «تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها»، الذي ألّفه نعوم بك شقير، وصدرت منه عدة طبعات.. آخرها عن دار الكتب المصرية، حققها الدكتور صبري أحمد العدل، وإشراف ودراسة صديقي الأستاذ الدكتور أحمد زكريا الشلق. وهو كتاب نادر في محتوياته التي لم تترك شيئاً يتصل بسيناء، إلا وذكرته وفصَّلته بدقة. 

وثمة كتاب آخر يتناول «البدو» عموماً.. في كل المنطقة العربية، ألّفه المؤرخ والعالم الألماني «ماكس فرايهيرفون أوبنهايم»، وحققه وقدمه الباحث العربي «ماجد شبر»، وفي الجزء الثاني منه رصد وشرح الوجود البدوي في مصر، وسيناء جزء منها. ثم إن نداءنا المتكرر بألا يكون 25 أبريل هو يوم عطلة رسمية فقط.. في وجدان الأجيال الطالعة، هو نداء لن نملّ من السعي لكي يصبح واقعاً حياً مستمراً، بأن تدرس تلك الأجيال – في تعليمها العام والجامعي – تاريخ علاقة المصريين بأرضهم، وكفاحهم ونضالهم من أجل الحفاظ عليها، وبقاء ترابها محرراً محمياً من كل طامع. وأن السبيل الأمثل لذلك، هو الإعمار والتنمية المستدامة، والارتباط بالأرض.. الذي يرسخه اختلاط عرق المجتهدين في الزراعة والصناعة، بحبات رمل وذرات تربة وطنهم. 

تحية لسيناء في يوم تحريرها، وفي كل يوم تشرق شمسه عليها وهي في سلام ورفاهية، وتعظيم سلام لأرواح الشهداء.. الذين بذلوا أرواحهم لتحريرها من العدو الصهيوني، ومن العدو الإرهابي المتأسلم. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة