أحمد الجمال..
عرفت محمد سلماوي.. بعد أن تعرفنا بعدة سنوات. عرفته عن قرب.. في براح العمل السياسي، وفي قبضة زنزانة مترين ونصف في مترين. وفي عسري النفسي والمادي؛ الذي ساهم في التخفيف منه، ثم في بحبوحة العيش.
وعرفته مثقفاً ومتذوقاً رفيع الشأن، وأديباً روائياً.. له بصمة في عالم الرواية لا تُنكر. وأيضاً صحفياً وكاتباً للمقال، ورئيساً للتحرير ومجلس الإدارة، ونقابياً ورأساً لاتحادات كتاب مصر والعرب وآسيا وأفريقيا. ثم مع ذلك كله، نموذجاً للإنسان المتصالح عملياً.. مع أفكاره وانتمائه النظري. وابن بلد أصيل مع أولاد البلاد. وأرستقراطياً عتيداً.. مع ذلك الصنف.
وفي كل صفة من تلك الصفات، توجد تفاصيل.. لو كتبتها لصارت كتاباً – مكتملاً – من عدة فصول.. ويبقى هو.. كما هو، حتى مع بلوغه الثمانين.
تعرفت به – من خلال حديث مع الأستاذ محمد حسنين هيكل – قبيل منتصف السبعينيات، إذ كنا مجموعة ناصرية كبيرة.. في جامعة عين شمس، وكانت العلاقة قوية مع الأستاذ هيكل؛ خاصة بعد أن ترك مؤسسة الأهرام. وكنا نقيم ندوات أسبوعية في النادي السياسي.. باتحاد طلاب الجامعة، ونقيم احتفالاً سنوياً في 28 سبتمبر.. ذكرى رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، كان يحضره كبار رجال الدولة؛ كرفعت المحجوب وحافظ غانم – الأمينين الأولين للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي – ووزراء وصحفيين كبار ومفكرين ومثقفين؛ خاصة من أهل اليسار المصري بمعناه الواسع.
وعندما قرر الرئيس السادات أن يتحول الاتحاد الاشتراكي إلى التعددية.. من داخله، طرح فكرة المنابر السياسية داخل ذلك الاتحاد، وهنا اقتربنا- سلماوي والعبد لله- في مجموعة ضمَّت الراحل الكبير كمال الدين رفعت، والراحل الدكتور عبدالكريم أحمد، وأيضاً الراحل الدكتور عبدالحميد عطية، وآخرين.. منهم الدكاترة صلاح دسوقي وسيد غريب،والنائب كمال أحمد.. البرلماني الإسكندراني الشهير.
ولقصة هذا المنبر، وموقف الرئيس السادات منه.. ومن كمال الدين رفعت، صاحب التاريخ المضيء في مقاومة الاحتلال البريطاني، وأحد المثقفين من الضباط الأحرار؛ تفاصيل ليس هذا مجالها.
وازداد الاقتراب مع الأستاذ محمد سلماوي – الذي كان يخصص سيارته الفيات لتنقلاتنا، وينفق على أكلنا وشربنا، وربما «الدخان» أيضاً.. في كثير من الأوقات، إلى أن حدثت أحداث يناير 1977، وقُبض على مئات.. أو عدة آلاف من طلاب الجامعات والمفكرين والمثقفين والمهتمين بالعمل السياسي، وأودعوا السجون، ومنهم محمد سلماوي؛ لتبدأ مرحلة تالية في رفقتنا، إذ تأخر القبض على العبد لله.. إلى 28 يناير. وبعد أمن الدولة والنيابة، صدر قرار وكيل النيابة حسن الشربيني بحبسي.. حبساً مطلقاً.
ونُقلت إلى سجن الاستئناف، وبعد صعودي للسلم الحديدي – المؤدي للدور الثاني – كانت الزنزانة رقم 27 في مواجهتي، والأصوات تعلو من الزنازين الممتلئة.. تدعوني للدخول إليها، غير أن مطالعتي لوجهي محمد سلماوي وسيد غريب.. يطلان ويناديان – من شراعة الباب – جعلتني أتجه لسبعة وعشرين، التي كانت تضم معهما.. الأساتذة محمد يوسف الجندي، وفيليب جلاب، وحسين عبدالرازق، ويوسف صبري، ومحمد يوسف، ومحمد عواد؛ لنصبح تسعة.. أضيف إليهم العاشر حمزة العدوي، في الزنزانة الضيقة المغلقة طول النهار والليل، عدا ربع ساعة.. للذهاب إلى المراحيض صباحاً.
وفي الزنزانة – التي استفاض الأستاذ سلماوي في شأنها بمذكراته – كانت مواقف ومشاهد، وحكايات وسلوكيات.. أتوقف في هذه المساحة «الزنزانية» المحدودة، عند قدرتنا على ترويض أنفسنا.. لنقبل ونستجيب – الاستجابة المناسبة – لتحدي الحبس والزحام في مكان ضيق، والمشاركة في الطعام والماء وقضاء الحاجة.. على جردل مخصص لهذا الأمر، بدون أي ساتر!
ثم ترويض السجان -ضابط العنبر الشاب.. برتبة ملازم أول؛ كان يرتدي أوفرول كاكي، ويسير ومن خلفه اثنان من الشاويشية.. ضخام الجثة، يمسك أحدهما شومة من الخيزران الغليظ، وإذا لم يعجب حضرة قائد العنبر.. سلوك أحد المساجين، أخرجه.. وطرحه الاثنان – إياهما– أرضاً، ليرفعا ساقيه.. ويبدأ «المدّ» بالشومة على القدمين، حتى يصرخ السجين.. مستغيثاً ومسترحماً. وكان الضابط ممدوح الجوهري..يظنأن زنزانة 27..هي مركز قيادة الحبسة، فيعمد لضرب الضحية أمامها؛ متحدياً أن ينطق أحدنا بكلمة.
ومن هذا الوضع.. إلى وضع آخر، يأتي فيه خلال نوباته الليلية «نوباطشية»،فيضع كرسياً في زنزانتنا، ويجلس عليه.. ونحن جلوس على الأرض، ويسأل ويناقش.. إلى أن بدأ يستحي من مشهد الكرسي بيننا، فصار يجلس معنا على الأرض، وكفّ عن حكاية الضرب والصوت العالي.
وكان لسلماوي الدور الأبرز.. في تثقيف حضرة الضابط!
وللحديث صلة.
نقلاً عن «المصري اليوم»