Times of Egypt

في تفسير ما جرى للعرب بين نكبتهم الأولى ونكبتهم الثالثة

M.Adam
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد
أستعير العنوان من المجموعة القصصية «ذكر ما جرى»، للمرحوم خالد الذكر.. جمال الغيطاني، التي تساءل فيها عن الأسباب التي أدت إلى نكبة العرب الثانية في 1967؛ التي سُميت – تخفيفاً من فداحتها – بالنكسة، فعند الحديث عن النكبة الثالثة.. التي فاقت في أهوالها ما جرى في كل من النكبتين السابقتين، لا يكفي ذكر ما جرى ويجري.. تحت أعين العرب والعالم كل يوم؛ لأن جسامة الحدث تستلزم البحث عن أسبابه، وربما ينفع العلم بها في تفادي نكبة رابعة، أو – إذا كان خيالنا وإرادتنا يسمحان – تصفية آثار هذه النكبة الثالثة.
طبعاً، قد يحلو للبعض أن يدعي أن العرب – وهم يواجهون النكبة الثالثة – لا يملكون أسباب مقاومتها، ولكن التأمل الموضوعي لأحوال العرب عند كل نكبة، سوف يكشف بجلاء أنه إذا كان العرب لم يملكوا أدوات القوة العلمية والاقتصادية والمالية والدبلوماسية.. زمن النكبة الأولى، وأبدوا بعض المقاومة للمشروع الصهيوني.. الذي قاد إلى كل هذه النكبات، فإنهم يمتلكون الكثير من هذه الأدوات وقت النكبة الثالثة، ومع ذلك.. تقاعسوا عن استخدامها، أو لم يرَ بعضهم أي حكمة في استخدامها، على الرغم من أن فداحة نتائج النكبة الثالثة.. تفوق بكثير كل ما جرى من قبل.

‎النكبة الثالثة تفوق في آثارها كل ما جرى في النكبتين السابقتين
دعونا نقارن آثار النكبات الثلاث، والموارد التى استخدمها العرب في كل منها.
لقد انتهت النكبة الأولى في 1948، بتحول المشروع الصهيوني إلى واقع.. على قسم من أراضي فلسطين، وتمكنت الحركة الصهيونية من إقامة دولتها، على مساحة من أرض فلسطين.. تتجاوز ما قرره لها قرار التقسيم، الذي وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1947، ولكن بقيت الضفة الغربية تحكمها إمارة شرق الأردن، ووقعت غزة تحت الإدارة المصرية، إلا أن الدول العربية – المستقلة في ذلك الوقت – دخلت بخمسة جيوش.. حرباً ضد المستعمر الصهيوني، مع أن معظم هذه الدول لم يكن كامل الاستقلال.. بوجود جيوش أجنبية على أراضيه، أو بسيطرة أجنبية على قواته المسلحة، كان ذلك حال مصر والعراق وإمارة شرق الأردن، وكان كل من سوريا ولبنان حديثي الاستقلال، ولم يتح لهما ولا للسعودية – التي أرسلت قوات حاربت تحت القيادة المصرية – أسلحة، ولا تجارب قتالية.. تُمكِّنها من الوقوف أمام القوات الصهيونية، التي استفادت من تجربة خوض بعض معارك الحرب العالمية الثانية.. إلى جانب بريطانيا، فضلاً عن أنها كانت تستعد.. منذ تدفق اليهود المهاجرين إلى فلسطين بعد وعد بلفور، لمواجهة احتمالات المواجهة مع قوات عربية نظامية أو غير نظامية.
جاءت النكبة الثانية في يونيو 1967، وقد حصلت كل الشعوب العربية على استقلالها، وبذلت حكوماتها – خصوصاً في مصر وسوريا والعراق والأردن، وحتى في كل من المغرب والجزائر – جهوداً كبرى لامتلاك جيوش حديثة.. بمساعدة كل من الاتحاد السوفيتي لبعضها، ومساعدة دول غربية للبعض الآخر، ولكن انتهت النكبة الثانية.. بسيطرة دولة المشروع الصهيوني على كل فلسطين؛ بابتلاع الضفة الغربية وغزة، فضلاً عن احتلال مساحات من دولتين عربيتين.. شبه جزيرة سيناء في مصر، ومرتفعات الجولان في سوريا.
وفي وقت هذه النكبة الثانية، كانت بعض الدول العربية – وخصوصاً في الخليج، وكذلك في شمال أفريقيا – تُراكم أصولاً مالية بفضل تصديرها للبترول، وإن لم تكن قد أكملت السيطرة عليه، مما أتاح لها أن تساهم في دعم الصمود الاقتصادي.. للدول التي خرجت مهزومة من تلك الحرب، بل وتمويل بعض مشترياتها من السلاح؛ وهو ما تكفلت به كل من السعودية والكويت، بموجب قرارات القمة العربية في الخرطوم في أغسطس 1967، وما قامت به الجزائر مع مصر قبل حرب 1973.
النكبة الثالثة: التي بدأت بطوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، أدت بدولة المشروع الصهيوني إلى تحويل السيطرة على الأراضي الفلسطينية – التي يُفترض أن تكون إقليم دولة في غزة والضفة الغربية – إلى دمار شامل في الأولى، وحصر سكان الثانية في مدن وقرى محاطة بالقوات العسكرية وبالمستوطنات المسلحة.. تمهيداً – إذا ما استطاعت دولة المشروع الصهيوني – لتهجيرهم خارج حدود فلسطين التاريخية. وكذلك قامت بعدها بضم كل هضبة الجولان، ومساحات واسعة في جنوب دمشق، وخمس مناطق فى لبنان تحت الاحتلال، وتبذل مساعي حثيثة لتقسيم سوريا، ولا يكف قادتها عن إعلان أن إسرائيل الموعودة – بحكم تفسيراتها للتلمود – تشمل مساحات واسعة من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وحتى المملكة العربية السعودية.
ويمكن القول.. إنه على عكس النكبتين السابقتين، لا توجد مواجهة عربية جادة للمشروع الصهيوني. لم تتضامن حكومة عربية واحدة.. مع النضال المسلح للشعب الفلسطيني في غزة، أو الضفة الغربية، واكتفت كلها بالعمل الدبلوماسي؛ سواء من خلال الجامعة العربية، أو الأمم المتحدة، أو منظمة التعاون الإسلامي. بل وعلى العكس مما جرى بعد النكبة الثانية، من اتخاذ قرار.. التزمت به كل الحكومات العربية؛ برفض التفاوض أو الصلح أو الاعتراف بالكيان الصهيوني، تقيم ست دول عربية علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وتتعدد الاتصالات العلنية أحياناً – وغير العلنية في أحيان أخرى – من جانب حكومات.. لا تقيم صلات دبلوماسية مع إسرائيل، ويتبادل بعضها مع إسرائيل علاقات اقتصادية، أو يقدم لها تسهيلات مرور عبر أجوائها وأراضيها. ولعل أفضل ما تقوم به حكومات عربية مساندة للشعب الفلسطيني، هو جهود الوساطة التي تقوم بها حكومتا مصر وقطر.. أملاً في الوصول إلى وقف الحرب الغاشمة، والإبادة الإنسانية التي تقوم بها القوات الإسرائيلية في غزة؛ وهي جهود تصطدم برفض الحكومة الإسرائيلية للاستجابة لها.. متشجعة – في ذلك – باتفاق رؤاها مع الإدارة الأمريكية، التي تترك لها تقريباً.. الحرية الكاملة في فعل ما تشاء.
صحيح أن النكبة العربية الثالثة.. تجري، وبعض الحكومات العربية لا تملك السيطرة على كل إقليمها، تنازعها فيه قوى مسلحة منافسة، أو مقاومة شعبية مثل ما هو الحال فى سوريا والسودان وليبيا واليمن.. وحتى العراق. ولكن من الناحية الأخرى، تملك الدول العربية الأخرى جيوشاً مزودة بأحدث ما تقدمه تكنولوجيات السلاح التقليدية، كما تتمتع بأرصدة مالية هائلة.. تجعلها تقفز إلى صدارة الدول ذات الفوائض المالية.. خصوصاً بالمقارنة بعدد سكانها، كما تحظى بنصيب مهم من إنتاج العالم من البترول والغاز الطبيعي، تُمكنها من التأثير في الأسواق الدولية، وتدعو القوى العظمى إلى خطب ودها، بل وصار بعضها يملك من المهارة الدبلوماسية.. ما يجعلها وسيطاً مقبولاً في أخطر الصراعات المسلحة، التي تعرفها السياسة العالمية في الوقت الحاضر.
لذلك، فليس من الصحيح أن العرب لا يملكون الآن من وسائل القوة.. ما يُمكِّنهم من ممارسة الضغط على إسرائيل أو الولايات المتحدة؛ بوقف علاقات بعضهم الاقتصادية والدبلوماسية مع الأولى، والتوقف عن إظهار السخاء المالي البالغ مع الثانية، وباستخدام لغة الصفقات.. التي لا يعرف الرئيس الأمريكي غيرها؛ سواء مع حكومته أو مع مشروعات أسرته المالية، وهو ما يثير التساؤل: كيف تجري هذه النكبة الثالثة بكل آثارها الفادحة، والعرب نظرياً.. في موقف أفضل بكثير مما كانوا عليه وقت النكبتين السابقتين الأولى والثانية؟
‎المصالح القطرية الجديدة عقبة كأداء أمام أي تعاون عربي
سيجد البعض الجواب سهلاً في غياب نظام عربي فعال. فلو كان هذا النظام قائماً، لتعاون العرب فيما يحقق مصالحهم، ولذلك تكون مهمة الحريصين على مصلحة عربية مشتركة، هي السعى لإقامة مثل هذا النظام، أو بعث الفاعلية في المنظمات العربية القائمة.
للأسف الشديد، مقومات هذا النظام غائبة في الواقع العربي.. الذي أنتجته الثورة النفطية، وقرار الرئيس السادات بالسعي لصلح منفرد مع إسرائيل في نوفمبر 1977. النظام الإقليمي الفعال، يستند إلى رؤية مشتركة لمصادر تهديد واحدة، وإلى إطار من القيم.. يجعل تحقيق المصلحة القُطرية، رهناً باكتساب التضامن خارج الوطن. النظام الأوروبي يقوم منذ البداية على تصور لمصدر تهديد واحد؛ وهو الخطر السوفيتي. ويعتمد على إطار من القيم.. يفترض أن التأييد الشعبي للحكومة، هو بسبب انتصارها لمشروع يمتد خارج حدودها. بنفس هذا المنطق، تعاون العرب معاً.. تحقق عندما كانوا يتفقون على مصدر تهديد واحد لهم جميعاً، وهو الوجود الصهيوني في فلسطين. ولذلك وقفوا جميعاً ضد العدوانية الإسرائيلية في 1948 و1956 و1967 و1973، وكانت النظم العربية تكتسب شعبيتها – بل وشرعيتها – من خدمة مشروع يمتد خارج حدودها.
وحتى الملك فاروق، كان يسعى لكسب الشعبية بالدخول في حرب فلسطين، وطبعاً جمال عبد الناصر والقيادات البعثية في سوريا والعراق، كانت تتنافس لإظهار أنها الأكثر إخلاصاً لمشروع القومية العربية، واضطرت النظم المحافظة.. لمجاراة هذا التيار الجارف وقتها. وعندما حاول بعضها محاربته، مثلما فعل المرحوم الملك فيصل في ستينيات القرن الماضي، كان ذلك برفع شعارات مشروع آخر.. هو المشروع الإسلامي، الذي يمتد خارج حدود السعودية.
أما في الوقت الحاضر، فلا يوجد مصدر تهديد واحد.. تتفق على مواجهته كل الدول العربية. وكان أول من خرج على ذلك، هو الرئيس الراحل أنور السادات.. الذي تصور خطأ – بكل تأكيد – أن إسرائيل ليست خطراً وأنه يمكن إقامة السلام معها، وامتدت هذه الرؤية – بعدها بسنوات – إلى قوى سياسية وحكومات عربية.. ابتداء بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم كل الحكومات التي طبَّعت علاقاتها – رسمياً أم على نحو غير رسمي – مع إسرائيل، ثم أصبحت حكومات عربية كثيرة – بل كلها في الواقع – تجد مصلحتها في تنمية واستغلال مصادر قوتها الداخلية، وهذا ينطبق تحديداً على حكومات الخليج، فما يُكسبها الشعبية والنفوذ الإقليمي والحضور الدولي.. ليس رفع شعارات تخاطب شعوباً أخرى؛ مثل القومية العربية أو التضامن الإسلامي، أو حتى التضامن الخليجي، ولكنه استغلال موارد البترول والغاز الطبيعي أو الطاقة الشمسية.. داخل حدودها، وهو الذي قد يُمكِّنها من إقامة علاقات متوازنة مع إسرائيل، وتبدو المقاومة الفلسطينية – بالنسبة لها – مصدر ضيق، حبذا لو تخلصت منه.. باتفاق مع إسرائيل.
هل يمكن أن تتغير هذه الأوضاع في المستقبل القريب؟
يتوقف ذلك على أن تأخذ القيادات العربية – خصوصاً في المشرق العربي – تصريحات القادة الإسرائيليين.. حول حدود إسرائيل الموعودة.. مأخذ الجد، فترى في ذلك مصدر تهديد لها، وتجد في التضامن مع الدول التي يمتد لها هذا التهديد.. مصدر قوة لها.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة