محمد عبدالشفيع عيسى
أثارت ما سُميت بـ«تسريبات الرئيس عبدالناصر» – في الفترة الأخيرة – جدلاً ولغطاً شديدين، وكما هو الحال مع مختلف الوثائق والوقائع التاريخية، أخذ الفرقاء المتفرقون.. يقومون بانتقاء ما يروق لأفكارهم العقائدية ومصالحهم الاجتماعية ومُدرَكاتهم الثقافية، ثم يسلطون عليها الأضواء.. حتى تبدو وكأنها الحقيقة – أو الأقرب إلى الحقيقة – أو كأنه لم يوجد غيرها على صفحات التاريخ الحقيقي.
ترك الجميع – أو الأكثرية – ما تم «تسريبه» جانباً، وجعلوا يتنقلون يمنة ويسرة.. بين هذه الواقعة وتلك، وبين هذه الوثيقة وتلك، ليحاولوا إثبات ما يريدون إثباته، وينكروا ما عداه.
وقد انشغل أنصار الرئيس عبدالناصر.. بمحاولة الدفاع عن صحة «التسريبات».. من الناحية التقنية، وعن صحة الاتجاهات الفكرية المتضمنة فيها، بينما أن ما يمكن أن نطلق عليهم «خصوم الرئيس».. أخذوا يكرسون جلّ جهدهم، من أجل القول بأن عبدالناصر.. إنما بذل جميع جهده تقريباً، وخاصة طوال السنوات منذ 1967 (سنة عدوان يونيو) حتى 1970 (سنة الرحيل)، لتكريس «الخيار السلمي» في التعامل مع إسرائيل؛ وخاصة منذ قبول مبادرة روجرز في يوليو 1970. وإذا بوسائط التواصل الاجتماعي الموالية لهذا الاتجاه، أخذت تبحث عما يؤيد وجهة نظرها، وتنشره بكل ما تملك من جهد، وتذيعه على الجمهور بكل الطاقة لتثبت ما تريد إثباته.
وأستطيع القول – وقد كنت «شاهداً»، إلى حدٍّ ما، إن صحّ التعبير، على ما جرى في الفترة من 1965 تقريباً حتى 1972 – إن فريق «الأنصار» وفريق «الخصوم» للرئيس عبدالناصر، فاتهم النظر إلى الواقع الاجتماعي المتغير، مصرياً وعربياً وعالمياً، من أجل التبصر واستنباط الحكم السليم.. نسبياً، على ما جرى.
***
ما أريد قوله ها هنا، أن الرئيس عبدالناصر – من بعد 1967 «العدوان» و«النكسة» – ليس هو بالضبط القائد السياسي-العسكري جمال عبدالناصر في فترة 1952-1964.. أو 1965؛ ربما منذ «الانفصال السوري» عن «دولة الوحدة» الجمهورية العربية المتحدة عام 1961. ثم إن عبدالناصر في فترة 1963-1967 ليس هو بالقطع عبدالناصر في فترة (إزالة آثار العدوان) 1967-1970.
وسوف أتحدث من وجهة نظري.. كشاهد من فئة الشباب آنئذٍ، وحيث عملت لفترة في «أمانة التثقيف» باللجنة المركزية لمنظمة الشباب الاشتراكي (1966-1970)، وكنت بمثابة «الأمين المساعد» لتلك الأمانة، إلى جوار أمينها الأستاذ عبدالغفار شكر.
فقد تكونت (بعد الانفصال السوري ذاك).. ما يمكن أن يُعتبر «طبقة عازلة».. بين القيادة السياسية التاريخية للرئيس عبدالناصر؛ كزعيم «كارزماتي» جاذب، وبين الجمهور الشعبي العريض الذي تكوَّن (وفق تعبير «الميثاق الوطني» لعام 1962) من العمال والفلاحين والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية. ولن نخوض في مغزى هذه المصطلحات الآن، ولكن تكفي الإشارة إلى أن الطبقة العازلة المذكورة، تكونت من فئة «العسكريتاريا» التي وقفت شاخصة أمام السدّ.. الذي ربما شيّدته، ولو بصورة غير مباشرة – ولكن بدَأبٍ – بين الرئيس وجمهوره الشعبي العريض المفترض.
وبينما مثَّل عبدالناصر نوعاً من «الزعامة».. التي أخذت تتآكل ربما – ونسبياً – شيئاً فشيئاً.. على مدى سنوات النصف الثاني من الستينيات؛ بفعل الزحف المنتظم للطبقة العازلة، فإن العسكريتاريا بدت قوية وواثقة، دون العناية اللازمة بواجبها العسكري-القتالي.. في مواجهة المخاطر المحدقة. وهنا وقعت مأساة الخامس من يونيو 1967؛ حين (تحطمت الطائرات عند الفجر) دون حرب، عدا الانسحاب الذي جرى الأمر به، عبر صحراء شبه جزيرة سيناء، ووقع فيها ما وقع.
حدثت المأساة.. على وقع تغير اجتماعي، لعبت فيه الطبقة العازلة دوراً حاسماً، من خلال تولي المواقع القيادية في «شركات القطاع العام»، ومن خلال الإشراف على تطبيق ما سُمي «أحكام الحراسة» على الأموال والمساكن.. لبعض المتنفذين في مواجهة النمط الرئيسي لثورة يوليو 1952.
***
تلك إذن هي «الطبقة الجديدة»، التي تقدمت للسيطرة على جهاز الإنتاج، ولتقود الاتجاه المحافظ سياسياً.. قائماً على نوع من «رأسمالية الدولة»، إن صحّ التعبير. وكان ما كان، من ترهّل عسكري واقتصادي وسياسي، قاد إلى ما جرى صبيحة (تحطم الطائرات عند الفجر).
وبينما أن «الطبقة العازلة» – بنفوذها المتشعب ذاك – قد أقصت الرئيس عبدالناصر.. عملياً، لسنوات، عن مركز اتخاذ القرار، فإن (الثائر) عبدالناصر ما كان له – بعد أن (انكشف المستور) صبيحة الخامس من يونيو 1967 – إلا أن يطيح بجذورها.. التي أسماها «مراكز القوى» ويعيد بناء القوات المسلحة.. بشراً وفكراً وتسليحاً؛ استعداداً لحرب، قدُر لها أن تقع بالفعل بعد ذلك بسنوات – بعد وفاته – «حرب أكتوبر».
هذا، وكانت ثمة فئة شابة كثيفة في أواخر الستينيات.. على غير اقتناع تام بمسيرة ما يسمى «الحل السلمي»، ولم تكن لتوافق الرئيس تماماً على قبول ما سُمي بـ«مبادرة روجرز».. للتسوية السياسية. ولكن لم تكن لدى هذه الفئة.. الحقائق كاملة على كل حال. وكان بعض من تلك الفئة – حتى بعد وفاة الرئيس عبدالناصر – ترى.. في قرارة أنفسها، أنه ربما تستعيد ثورة يوليو الحقيقية زخمها، ولو بعد حين. ولقد أُزيحت الشريحة الكثيفة للطبقة العازلة أثناء فترة إزالة العدوان (1967-1970)، إلى حد كبير، وإن لم تتم إزاحتها تماماً.
وجاء ما أسماه الكاتب الصحفي الفذ أحمد بهاء الدين «الانفتاح سداح مداح».. منتصف السبعينيات، ليدعم – عملياً – الشريحة العليا من الطبقة العازلة. وجرى ما جرى بعد ذلك.. خلال السبعينيات وحتى 1981.
نقلاً عن «الشروق»